لا تشبه قرية «الملاجة» التي تحتضن مهرجان السنديان الشعري في مدينة طرطوس السورية في دورته الرابعة عشرة، القرى العربية في أي شيء حتى في اسمها السرياني الذي يعني المرأة الفاتنة ذات الشعر الطويل. يمكن أن نقارن هذه القرية بالقرى الأوروبية في فرنسا أو النمسا أو ألمانيا، ولكننا لا نقصد هنا المكان أو «الطوبوغرافيا» مع أنها تحيل إلى ذلك، بل نقصد الناس الذين يقطنون هذه القرية وطبيعتهم الاجتماعية والثقافية التي جعلت من هذه القرية الصغيرة مركزاً ثقافياً يعد بالكثير من الانجازات التي عجزت عنها عواصم عربية وغير عربية كثيرة وكبيرة. لا بد من أن نعرف أولاً إن عدد سكان هذه القرية لا يتجاوز 600 شخص، غير أن الذي ينبغي التركيز عليه هو الجمهور الذي حضر المهرجان بكثافة وصلت إلى أكثر من ألفي شخص طيلة يومي المهرجان الذي تخللته نشاطات فنية مهمة سبقت النشاط الشعري. هناك أكثر من ظاهرة في هذه القرية لا يمكن تجاهلها، هي التي تمنح القرية هذا التفرد، بدءاً من ناسها الذين تنكبوا أدوات الزراعة لتسوية ارض المهرجان، وهم خبراء في هذا الأمر، وانتهاء بالشغف الثقافي الذي ينطوون عليه. من الأشياء المهمة التي ينبغي ذكرها هنا هي أن هذا المهرجان كان تأسس على يد الشاعر السوري الراحل محمد عمران الذي توفي بعد شهرين من إقامة أول دورة له. ووفاء لهذا الشاعر تعاهد أصدقاؤه بإكمال المشوار من دون أن يكون عندهم أي تصور عن التكاليف التي يمكن أن يتحملوها لإدامة المهرجان. وهذا ما يجعلنا نعود مرة أخرى إلى سكان هذه القرية التي قلنا عنها إنها لا تشبه القرى العربية، لأنهم ببساطة شديدة مدنيون، ساهمت التكنولوجيا في تحديث أفكارهم الاجتماعية والثقافية وبادروا هم لاستثمارها بطريقة طيبة للغاية أنتجت هذا المهرجان الذاتي التمويل إلى حد كبير. لا تكمن أهمية هذا المهرجان في اعتقادنا على الأقل في الأسماء المشاركة في إحيائه، على أهميتها، لكن في التقاليد الثقافية والفنية والمدنية إن صحت التسمية التي يرسيها في مجتمع «قروي» مع خطل هذه العبارة هنا، خصوصاً أننا نعرف تقاليد القرى العربية الرثة المدقعة الفقر والتي تفتقر إلى ابسط مقومات الحياة الثقافية. من هنا تنبع القيمة الحقيقية لهذا النشاط الذي بدا في أول الأمر مرتجلاً ورعوياً. لكن بعد مرور أربعة عشر عاماً متواصلاً على هذا الإخلاص ينبغي أن نعيد حساباتنا واستراتيجياتنا الثقافية من اجل إعادة النظر بما يمكن أن تفعله قرى مماثلة في بلدان عربية كثيرة للثقافة، في زمن تعجز فيه المدن الكبيرة بكل ما لديها من إمكانات عن توفير مثل هذه الأجواء الثقافية المثمرة. ومع إن المهرجان بلا مغريات لأن المشاركين فيه يدفعون أجور الطريق ويتحمل المهرجان إطعامهم ونومهم، فهناك ضرورة ملحة لدعم هذا المهرجان داخلياً وخارجياً، بصفته مؤسسة مدنية، سواء من الحكومة والمنظمات المدنية السورية أو المنظمات العربية أو الأجنبية. ورشة الفن التشكيلي بدأت أعمال المهرجان بورشة الفن التشكيلي التي امتدت عشرة أيام بمشاركة فنانين من مختلف البلدان العربية، وتم انجاز اللوحات في الهواء الطلق في المكان الذي خصص في ما بعد ليكون معرضاً للأعمال التشكيلية. وخلال هذه الأيام العشرة استطاع الفنانون المشاركون في الورشة من انجاز خمسة وثلاثين عملا تنوعت فيها التقنيات والأساليب والموضوعات، فبالإضافة إلى الأساليب الواقعية كانت هناك التعبيرية والتجريدية والواقعية الجديدة. أما أحجام الأعمال فكانت في غالبيتها كبيرة نفذت بحرفية عالية خصوصاً إذا عرفنا أن من بين المشاركين في هذه الورشة فنانين كباراً مثل الفنان العراقي محمد مهر الدين إضافة إلى عدد مهم من الفنانين السوريين والعرب. وتزامنا مع ورشة الرسم كانت هناك ورشة أخرى مخصصة لأطفال القرية وكيفية تعليمهم صناعة الصورة الضوئية أقامتها الشاعرة المصرية جيهان عمر خرجت بنتائج جميلة للغاية، إذ استطاع الأطفال المشاركون تقديم لقطات موحية باعتمادهم تقنية البورتريت. وكانت هناك صور برغم قلتها اقرب إلى اللقطات السينمائية، ما يبشر بظهور مواهب جديدة هي جزء من أهداف هذا المهرجان. الجلسات الشعرية كما يعترف المنظمون قبل سواهم فإن الجلسة الشعرية الأولى كادت تفشل لولا وجود الشاعر البريطاني ستيفن واتس الذي أعاد إلى الجمهور الكبير الذي حضر إلى هناك بهجة الشعر الحقيقية من خلال قصيدته الطويلة التي تتحدث عن الأجانب في لندن. قرأ ستيفن قصيدة واحدة طويلة مبنية على عدة مقاطع شعرية غالباً ما تنتهي بلازمة هي جوهر القصيدة التي تتخذ من الهم الإنساني الشامل ثيمة لها، وما نعنيه هنا هو حياة الغرباء في مدينة لندن وكيف تتشظى في العزلة والوحدة. وقد نجح ستيفن في تحقيق هذا المعادل الموضوعي حين استبدل هؤلاء البشر بالطيور المهاجرة التي تأتي تذهب من دون أن تستطيع تشكيل ذاكرة في المكان الذي تقطن فيه لأن الذاكرة لا تتشكل إلا إذا ارتبطت بالمكان والهوية. أنقذ ستيفن الجلسة الأولى إذن لأنه كان آخر شاعر يقرأ فيها. أما الجلسة الثانية فكانت أكثر نجاحاً لوجود أسماء شعرية معروفة مثل الشاعر الفرنسي جان كلود فيلان والشاعر التونسي المنصف الوهايبي والشاعر اللبناني الكبير وديع سعادة الذي اختتم المهرجان وساهم في إنجاحه.