في 13 حزيران (يونيو) 1971 نشرت «نيويورك تايمز» أول دفعة من أوراق البنتاغون، ولم تمضِ أيام حتى تبين أن الوثائق سرّبها دانيال إلسبرغ، وهو باحث في معهد مساتشوستس للتكنولوجيا سبق أن عمل لوزير الدفاع في حينه روبرت مكنمارا. وثار الرئيس ريتشارد نيكسون وطلب من وزير العدل جون ميتشل ان يحصل على أمر قضائي بوقف نشر الوثائق، غير انه لم يمض أسبوعان حتى كانت المحكمة العليا تؤيد حق النشر بغالبية ستة أعضاء مقابل ثلاثة. كدت أقول، بعد 40 سنة أو نحوها، ما أشبه اليوم بالبارحة، غير أن ثمة فرقاً أساسياً يلغي الشبه الظاهر مع نشر وثائق حرب أفغانستان، فالجريدة التي نشرت وثائق حرب فيتنام خلفتها مدونة (بلوغ) هي ويكاليكس والاسم مشتق من كلمتين، وجزؤه الأول يعود الى الموسوعة الإِلكترونية ويكابيديا، وجزؤه الثاني كلمة بالإِنكليزية تعني تسريب. على سبيل التذكير، خلال سنتين من ذلك التاريخ، كانت «واشنطن بوست» بطلة كشف فضيحة ووترغيت التي تعود الى 17/6/1972 عندما سطا خمسة رجال على مكتب اللجنة الديموقراطية الوطنية في مبنى ووترغيت، وضبطوا ودينوا وتبين ان لهم علاقة بلجنة اعادة انتخاب نكسون، واعتمد مراسلا الجريدة بوب وودوارد وكارل بيرنستين على مصدر أطلقا عليه اسم فيلم جنسي في كتابهما «جميع رجال الرئيس». ولم يكشف اسم المصدر حتى 1/5/2005 عندما تبين انه سيرد في تحقيق نشرته مجلة «فانتي فير» في عدد تموز (يوليو) اللاحق، وكان مارك فيلت، الرجل الثاني في «أف.بي.آي»، الذي توفي في 19/12/2008 عن 95 عاماً. (وورّط نيكسون نفسه عندما وجد المحققون أنه سجل محادثات في مكتبه، وبينها ما يثبت أنه حاول طمس الحقيقة، فاستقال في 9/8/1974 قبل أن يعزله الكونغرس، وخلفه جيرالد فورد الذي أصدر عفواً رئاسياً عنه). من دانيال إلسبرغ الى مارك فيلت والآن جوليان اسانج، وهو صحافي استرالي يرأس موقع ويكاليكس، وبرادلي ماننغ الذي سرّب الوثائق اليه. الموقع نشر 75 ألف وثيقة من أصل 90 ألف وثيقة سربها اليه الجندي برادلي ماننغ، وقال اسانج انه حجب الوثائق الأخرى لحماية المتعاملين مع الأميركيين الواردة أسماؤهم فيها. غير أن هذا لم يمنع وزير الدفاع روبرت غيتس ورئيس الأركان المشتركة مايكل مالن من الحديث عن «دم على يدي» أسانج أو الموقع، وهي تهمة غريبة لأن الدم هو على أيدي القوات الغازية. الوثائق المنشورة كانت وصفاً دقيقاً شبه يومي لسير الحرب بين 2004 و2009، أي سنوات جورج بوش، وتصف 144 هجوماً للقوات الأميركية قتل فيها مدنيون أفغان (على أيدي من الدم؟) والعمليات الخاصة التي تنفذها «القوة الضاربة 373» لاعتقال أو اغتيال المطلوبين من دون محاكمة. وقد تعرض موقع ويكاليكس ولا يزال لهجوم عنيف من اليمين الأميركي وعصابة اسرائيل اللذين سعيا الى الحرب على أفغانستان ثم العراق، و «فوكس نيوز» وصفت النشر بأنه «عمل إجرامي» والمواقع الليكودية هاجمت أسانج، وحاولت الانتقاص من جهده، كما طالب مسؤولون سابقون في ادارة بوش بإغلاق الموقع وجلب أسانج للمحاكمة بأي طريقة ممكنة، ما جعلني أفكر بالقوة الضاربة 373، واعتقال الرجل أو اغتياله، أو حمله على الاعتراف تحت وطأة التهديد بإغراقه بالماء، كما سمعنا عن المعتقلين في غوانتانامو. ما يعنيني شخصياً من الموضوع أن الميديا الأميركية الرئيسية، الصحافة التي تحمل وسام ووترغيت وأوراق البنتاغون، وحتى محطات التلفزيون مثل CNN التي أطلقت نموذج الأخبار 24 ساعة، لم تكشف تزوير ادارة بوش معلومات الاستخبارات في الإعداد للحرب على العراق، ولم تلاحق مجرمي الحرب، من بوش الابن نزولاً، بعد توافر معلومات كاملة قاطعة عن حرب قتل فيها مليون عراقي وألوف الشبان الأميركيين لأسباب نفطية واسرائيلية. الصحافة الأميركية الرئيسية لم تقصر فقط في نشر الحقيقة لوقف الحرب قبل وقوعها، بل كانت أحياناً متواطئة مع عصابة الحرب بما نشرت في صدر صفحاتها الأولى من أخبار ملفقة نقلاً عن مصادر مشبوهة معروفة بمصادرها الإسرائيلية، أو مبعدين عراقيين خونة لا يمكن الوثوق بهم. هذه الصحافة الأميركية تدفع اليوم ثمن تواطؤها في جريمة ادارة بوش، ومن دون أن تحاول التكفير عن ذنبها بحملة لمحاكمة دعاة الحرب. الصحافة التقليدية الورقية تراجعت، وأصبح الناس يعتمدون على المدونات (البلوغز) في تلمس الحقيقة، وأكمل غداً. [email protected]