الشاب الجالس خلف مِقود سيارة التاكسي ليس من الرعاع وليس رجلاً مسناً، مظهره ولباقته في الحديث يدللان على أنه شاب مثقف، كان يستمع إلى حديثي مع شقيقتي عبر الهاتف عن وظيفة عمل في أحد المصارف وفور إغلاقي الخط سألني عن اسم المصرف عله يحظى بفرصة للمنافسة على الوظيفة. أخبرني السائق ويدعى أحمد أنه تخرج منذ أشهر من الجامعة بتخصص علوم مالية مصرفية، ولكنه لم يجد فرصة عمل، ثم استطرد قائلاً: «شهادتي بقيت معلقة في المنزل، أما رخصة السوق التي أحملها في جيبي فكانت المنقذ لي من المأزق». أحمد رفض في البداية تقبل العمل على سيارة أجرة، ولكنه اختار المهنة كحل موقت ليتمكن من تأمين مصروف دخانه اليومي، ويجد الشاب نفسه أكثر تقبلاً للمهنة لأن من يقلّهم ليسوا معنيين بالتعرف الى شخصهِ، والظروف التي دفعته للعمل، ولكنه يجد نفسَهُ متحدثاً عن هويتِهِ عندما يباغته الركاب بالسؤال. يتذكر أحمد مرة أقلّ فيها محامياً من أمام المحكمة، كان صوت المذياع ينقل حينها أخباراً عن القضية الفلسطينية والصراع القائم بين حركتي «فتح» و «حماس»، وكانت زلة لسان الشاب كفيلة بلفت انتباه المحامي الذي سألَهُ على الفور عن مستواه التعليمي فاضطر لكشف الحقيقة المُرة كما وصفها. يقول أحمد ان عدداً لا يُستهان به من خريجي الجامعات يجدون في هذه المهنة خياراً موقتاً لتدبر مصاريفهم الضرورية وأنها مهنة يعمل بها الشباب المقيم في محافظات الأردن البعيدة من العاصمة. ولا يجد فارقاً كبيراً في عمله كسائق سيارة أجرة في البلدة التي يعيش فيها، وبين من يعمل على توصيل طلبيات الطعام من المطاعم العالمية التي تكثر في عمان أو حتى مندوبي المبيعات، لكنه يقول: «سيئة مهنتي أن غالبية المواطنين ينظرون الى أصحابها بازدراء». الحصول على مركبة واستخدام مهارات القيادة تعد هواية ومتعة لدى سامر عوده (24 عاماً) وهو خريج هندسة كيماويات، لذا فقد كان مرتاحاً نوعاً ما للعمل كسائق تاكسي إلى أن حصل على الوظيفة المناسبة . وتجاوز سامر مسألة العيب. وعمله كسائق كان سبباً في حصوله على وظيفة في مجال تخصصه في أحد المصانع، ويوضح قائلاً: «عندما سألني مدير المصنع في مقابلة العمل عن المهن التي عملت بها وإن كانت لدي خبرة في مجال التخصص، أخبرته بالحرف الواحد «أعمل سائق تاكسي»... ذُهِلَ المدير ولم يصدقني إلا بعدما رافقني إلى سيارة الأجرة التي شغّلتها في حضوره». أُعجب المدير يومها بشخصية سامر التي وصفها بالعصامية وبثقته بنفسه فعيّنه بمنصب مشرف على احد خطوط الإنتاج في المصنع. يقول سامر: «في سيارة الأجرة، لا بد من أن نستمع إلى الكثير من المواضيع، وأن نتحاور مع الركاب، لقتل الضجر الناجم عن طول المسافة». ويشير إلى أن شكوكاً تساور الركاب المتحدثين حول هوية من يجلس خلف المِقود فيصبحون فضوليين للتعرف الى هويتنا نحن الجامعيين بسبب ملاحظتهم مستوى الفكر والمظهر الحسن واللباقة في الكلام والاحترام الذي نبديه لهم. المهنة تستقطب آخرين يعملون في الوظائف الحكومية بعد انتهاء دوامهم، يقول معتز (33 عاماً) ويعمل في قسم الصحة في إحدى البلديات إن دوامه ينتهي الساعة الثالثة عصراً، فيتجه الى هذه المهنة بعد انتهاء عمله الحكومي من أجل زيادة دخله. ولا يجد معتز في عمله حرجاً، لا سيما أن جميع معارفه على اطلاع على وضعه المالي وراتبه المتآكل، وانطلاقاً من قناعته بأن «العمل ليس عيباً مهما كانت طبيعته»، فهو يمارس المهنة منذ سنوات، ويجدها مريحة كونها ليست ملزمة بعقد بل باتفاق شفوي. انتبه عزيزي الراكب، سائق سيارة الأجرة ليس بالضرورة أن يكون «أزعر»، بل قد يكون عكس ذلك تماماً. بهذه الكلمات يمازح معتز ركابه كي يستقطبهم ليصبحوا زبائن دائمين، ويصبح التنسيق معهم أمراً في غاية السهولة بعدما خصص أحد هواتفه النقالة لتلقي طلبات النقل.