كان للمستشرقين، الذين درسوا التراث العربي والإسلامي بدافعٍ علمي بحت لم تشبه أغراض، فضل صون التراث ودرسه وتحقيقه ونشره وترجمته. وكان المستشرق البريطاني، الأوكراني الأصل، كستر أحد أولئك المستشرقين المحدثين، الذين وقفوا جهدهم على خدمة القضايا العربية وتراثها في مجالاتٍ مختلفة، تاريخية واجتماعية، ودينية، وأدبية، ولغوية، وتواجه الباحثين في علم الاستشراق مشكلة عدم وجود سيرة ذاتية مفصلة عن هذا المستشرق. كتبَ كستر تسعة مؤلفاتٍ بالإنكليزية وكتاباً واحداً باللغة العربية وهو تحقيق كتاب «آداب الصحبة وحسن العشرة» لأبي عبدالرحمن محمد بن الحسين السلمي الذي ظهر عام 1954. وأهم أبحاثه بالإنكليزية، بحثان، الأول: «الحيرة... بعض الملاحظات عن علاقاتها بالقبائل العربية»، الذي صدرَ 1968 ، والثاني: «مكة وتميم... مظاهر من علاقاتهما» الذي صدرَ عام 1965. كما نشر بحثاً عن «كتاب الخراج» ليحيى بن آدم في مجلة «التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق» والتي كانت تصدر في مدينة ليدن، عام 1960. كما أن له دراسة حول أوائل الحديث النبوي، نشرها في مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن عام 1970. أما في المجال الأدبي، فله بحثان عن الشعر، الأول ملاحظاتٍ حول بعض الأشعار العربية، نشر في مجلة الدراسات الشرقية التي تصدر في إيطاليا عام 1966. والبحث الثاني، حول القصائد السبع وتصنيف المعلقات، نشره في المجلة السابقة 1969، كما أن له مساهماتٍ في ميدان المخطوطات أيضاً، فعرّفَ بثلاث مخطوطاتٍ عربية في المتحف البريطاني، وبيّن قيمتها العلمية والتاريخية ونشر ذلك في مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن 1960. يستعرض كستر في دراسته عن مكة لتاريخ تميم في عهود ما قبل الإسلام ويؤكد أن لتميمٍ أهمية خاصة، والمعلومات عن تميم في المصادر العربية تشير بوضوحٍ إلى العلاقات الوثيقة بين زعماء قبائل تميم وملوك الحيرة. ويوضح مدى ارتباط تميم بعلائقٍ وثيقة مع المركز (مكة). ومن الممكن القول إن تميماً لعبت دوراً مهماً في تاريخ مكة قبل الإسلام، وكانت تساهم كثيراً في دعم نفوذ المدينة في المجتمع القبلي لشبه الجزيرة العربية. إن تمحيص العلاقات بين مكة وتميم، قد يلقي بعض الضوء على أصول الحكم القبلي بقيادة مكة، وعلى السياسة المكية مع بعض القبائل المحيطة بها. ويمكن البحث في العلاقات بين مكة وقبائل تميم، يمكن أن يمَهد له ببعض الملاحظات حول علاقة القبائل العربية بالحيرة في أواخر القرن السادس الميلادي. كان النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، عصر تبدل أساسي في العلاقات بين القبائل في شمال شرقي الجزيرة العربية وبين الحيرة، وكان لانكسار قوات الحيرة في المعارك التي تخوضها هذه القبائل أن قوّض هيبة حكام الحيرة في نظر هذه القبائل. وأدى منح امتياز حراسة القوافل لبعض رؤساء العشائر إلى إثارة الحسد والخلاف بين القبائل، وقاد إلى التصادم في ما بينهم. بعدها قامت القبائل الساخطة بالتمرد على الحيرة وصارت طرق التجارة غير آمنة ومنها بدأ حكام الحيرة يفقدون السيطرة على الطرق التجارية، وتتضاءل هيبتهم وصار أمراء الحيرة يشعرون باضمحلال الإمبراطورية الفارسية، وتدهورها في أواخر القرن السادس الميلادي. ذلك أن النعمان آخر أمراء الحيرة بدأ يتعاطف مع القبائل العربية ومن المحتمل أنه صار يوثق العلاقات مع زعماء القبائل محاولةً منه لإيجاد أسباب مشتركة مع القبائل القوية. ويؤكد نولدكة أن أمراء لخم صاروا أكثر استقلالاً في موقفهم تجاه كسرى، ويؤثر عن كسرى قوله إنه «إنما قتل النعمان، لأن النعمان وأسرته وحدوا سياستهم وأهدافهم مع القبائل العربية». إن القبائل العربية بسبب خيبة أملها بسياسة الحيرة وسياسة الإمبراطورية الفارسية، بالإضافة إلى وعيها بضعف الدولة الموالية (الحيرة) شعرت بضعف الولاء لهذه الدولة، وبدأت تتطلع إلى كيانٍ سياسي ذي قيادة كفء خاص بها، وقد خلق هذا فكرة تحالف سياسي، يرتكز على المساواة والمصالح المشتركة، ذلك هو التحالف السياسي الموحد لمكة. إن الروايات المتعلقة بحقبة توطيد قوة مكة، مع أنها شحيحة، فهي تعطينا فكرة أولية لظهور هذه المرحلة، ففي إحدى الروايات تقدم تمهيداً لموضوع تدشين توحيد مكة، ذلك أن قريشاً كانوا تجاراً، ولم تكن تجارتهم في أي حالٍ لتتجاوز حدود مكة وكان التجار الغرباء يجلبون تجارتهم إلى مكة، يبيعون بضائعهم لقاطني المدينة والقبائل المجاورة، وهكذا كانت تجارتهم، وصار هاشم يذبح كل يومٍ شاة، ويصنع جفنة ثريدٍ ويطعم جيرانه، وبذلك سمي هاشماً لأنه هشّم الخبز وجعله ثريداً، وكان قيصر الروم يدعوه إلى بلاطه. وصار هاشم يتردد عليه واستطاع أن يأخذ من القيصر عهد الأمان وبذلك تم تأمين واحدة من أهم طرق التجارة خارج حدود مكة. وطوَّرت قريش بعد ذلك تجارتها، وزادت ثرواتها، وكان ذلك بفضل عبد منافٍ الذي ذهب إلى الحبشة وحصل على الإيلاف. وسمّى القالي في كتابه «ذيل الأمالى» تلك الرخص عهداً أو أماناً ويستعمل ابن سعد صيغة حِلف، كما يستعمل محمد بن حبيب في فصل الإيلاف كلمة إيلاف للرخص والاتفاقات مع رؤساء القبائل، ويطلق البلاذري في ذكره للإيلاف تعبير ال «عصام» على رخص الحكام. كانت قريش كما يقول الثعالبي، لا تفارق مكة ولا تتعامل إلا مع التجار الذين يترددون على سوق عكاظ وذي المجاز خلال الأشهر الحرم. وكان سبب ذلك أن قريشاً كانت محبة لحرمة البيت (الكعبة) وتخدم حجاج مكة بكل ما أوتيت من مقدراتٍ لها. وتميزت بذلك قبائل مثل قبيلة تميم التي كانت تتولى الإشراف على سلطة الإفاضة وسوق عكاظ. ولم تتبوأ قبائل تميم هذه المكانة من فراغٍ بل لأن تلك المكانة كانت ترتكز على قوة القبيلة من ناحية وقدرتها على خدمة تجارة مكة الخارجية من ناحية أخرى، إذ كان تجار مكة يحملون بضاعتهم في رحلات إلى خارج الجزيرة العربية، كانت تستند إلى أحلاف الإيلاف. والتفسير المعجمي لكلمة إيلاف يرجع إلى معنى الحماية. وهنا يفترض المستشرق كستر أن الإيلاف ينبغي أن يتضمن فقرة بخصوص مراعاة الأشهر الحرم، أي التعهد بالسلم خلال تلك الأشهر واحترام قداسة مكة وحرمتها. وكان الإيلاف في الحقيقة يعني القبول بنظام «السلام المكي» من جهة القبائل والاعتراف بمكانة المكيين، وتجارة مكة والتعاون الاقتصادي المستند إلى المصلحة العامة. وهنا يؤكد المستشرق بيركلاند أهمية عهود الإيلاف تلك، فيقول: «إن براعة قريش المالية وحيازتهم الأماكن المقدسة، جعلتهم يهيمنون على حركة التجارة غرب الجزيرة العربية لردحٍ طويلٍ من الزمن». لقد تنافس أشراف مكة في تقديم العون لراحة الحجاج، فقد قيل إن هاشماً كان يطعم الحجاج في كل موسمٍ، وكان عبدالمطلب – كما جاء في مروج المسعودي- يمد الحجاج بالماء العذب وكذلك يعطي الحجيج الحليب مع العسل كما وردَ في «أخبار مكة» للأزرقي. وتتعدد الروايات حول حفر الآبار، والمنافسة بين أشراف مكة، وحول الإيلاف والتحسينات في بطحاء مكة وتجهيز الطعام والسقاية، كما أسلفنا. وكل ذلك إنما يشير إلى الجهود المبذولة لازدياد هيبة المدينة وأمن الحج والتجارة ولهذا أعطيت بعض التسهيلات لبعض التجار القادمين لمكة للحج وكانت القوافل تجهز بأحسن المؤنة كي تحظى برضا القبائل. وجاء في «أخبار مكة» أن قريشاً لم تئد بنتاً حيَّة أبداً، وكذلك كان سكان الطائف لا يئدون لأنهم كانوا جيران قريش وأصهارهم بالزواج. ويقول الجاحظ إنه حتى ظهور الإسلام لم تسبَ امرأة قرشية قط من القبائل العربية، ولم يكن هناك أي أسير أمَّه قرشية، كما كانوا أناساً دياّنين ولذلك نبذوا الغزو وتجنبوا النهب والظلم. وفي فصل آخر يستشهد كستر بكتابات الجاحظ في صفات قريش ويسوق عنه أنه يلاحَظ أن قريش ظلت كريمة، رغم أن أرباحها لم تكن كبيرة. وينوّه الجاحظ أيضاً إلى اهتمامهم بذوي القربى، كما أن قريش بقيت (لقاحاً) حرة أي أنها لم تدفع ضريبة لأحدٍ. ويستخلص كستر من الزمخشري أن قريشاً اكتسبوا مكانتهم الممتازة المبجلة لسكناهم الحرم، ودعوا أنفسهم «أهل الله».