يشي الحراك الذي تشهده المنطقة، باقتراب استحقاقات مهمة في الأفق، ولعل هذا الزخم السياسي، على خطوط العواصم الإقليمية (وبخاصة تلك التي جرت تسميتها عواصم القرار)، يذكرنا بمرحلة كان للفعل العربي فيها، تأثير واضح في سياقات الأحداث التي تشهدها المنطقة، فهل ثمة عودة للروح الديبلوماسية العربية الفاعلة؟ هناك نظريتان، يمكن الارتكان إليهما، لفحص فاعلية الدور العربي ومعرفة مدى تأثيره في توجيه دفة الأحداث الجارية، والتحكم تالياً بنتائجها، أو اقله تجنب، ما أمكن، الآثار الضارة بالواقع العربي، انطلاقاً من حقيقة ان السياسة، في معناها ومبناها، هي فن الممكن. النظرية الأولى: ترى أن الحراك العربي الحالي يمثل، انعكاساً، أو استجابة، متأخرة، لمتغيرات في البيئة الدولية، طاولت مستوى الإدراك السياسي لدى النخب الفاعلة والمؤثرة في عملية صنع القرار في الغرب، بعد مرحلة المحافظين الجدد في أميركا والأزمة المالية العالمية، والتي باتت ترتأي أن ثمة تلازماً عضوياً بين الأزمات، بمختلف أنماطها ومستوياتها، الأمر الذي يستدعي إيجاد حلول شمولية لهذه الأزمات. فلا يمكن الوصول إلى حلول لمسائل الإرهاب والأزمة المالية مثلاً من دون تبريد بؤر الأزمات التي تشهدها مناطق آسيا والشرق الأوسط، وبخاصة قضية الصراع العربي – الإسرائيلي. ووفقاً لذلك، فإن ثمة حراكاً دولياً ضاغطاً باتجاه إيجاد حل للموضوع الفلسطيني، تقبله الأطراف المتنازعة، وبطريقة أخرى إنهاء قضية الملف النووي الإيراني. من هنا، فإن التحرك العربي الراهن لا يعدو كونه مجرد محاولات شكلية، الهدف منها محاولة الإيحاء بأن النظام العربي فاعل وشريك في صنع التطورات. وتستند هذه النظرية إلى جملة من الحقائق ترسخت في الواقع الإقليمي العربي على مدار السنوات الماضية: - اندماج النظام العربي في إطار النظام الدولي باعتباره «نظاماً فرعياً» له، وبخاصة لجهة التزامه بكل ما تصدره مؤسسات المجتمع الدولي من قرارات. ونتيجة ضعف البناء العربي، أصبحت المنظومة العربية هي المنظومة الفرعية الأكثر اختراقاً من بين منظومات النظام الدولي. - فقدان النظام العربي للحدود الدنيا من «الذاتية» و «الاستقلالية» نتيجة زيادة فاعلية نظام التغلغل والاختراق، وتعاظم تأثيراته تعاظماً كبيراً، إن على مستوى النظام ككل، أو بالنسبة الى وحداته على المستوى الجزئي، وكذلك امتداد النظام الدولي إلى داخل النظام الرسمي العربي: فمثلاً أصبحت الولاياتالمتحدة بعد احتلالها العراق مكوناً في النظام العربي، وربطته مباشرة بالنظام الدولي، الأمر الذي تجاوز الضغوط والاختراق والتأثير، لتصبح واشنطن صاحبة القرار في إحدى الدول الأساسية المكونة للنظام. - تنامي الدور الإقليمي في تطورات أحداث المنطقة، تنامياً كبيراً كماً ونوعاً، وكاد أن يصبح عنصراً أساسياً مقابل التراجع الملحوظ للدور العربي الإقليمي في التأثير في القضايا الإقليمية. فنتيجة لحال الضعف العربي تزايدت «أقلمة القضايا العربية»، ما أدى إلى مزيد من ترهل النظام العربي، وجعل اختراق مجاله السياسي والقفز فوقه أمراً معتاداً، وأتاح ذلك الفرصة أمام زيادة مساحة تأثير القوى الإقليمية في القضايا العربية، ولتحل محل الأدوار العربية. تلاقي هذه النظرية رواجاً واسعاً لدى نخب المعارضة في العالم العربي، وعند قطاع كبير من الشارع العربي المتأثر بالأحداث التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير، وبالتالي فإنها لا ترى في الحراك الحاصل الآن مؤشراً ايجابياً لمصلحة القضايا العربية، وأن ما يحصل محاولات لتهيئة المناخ العربي لمزيد من الاستتباع للنظام العربي. النظرية الثانية ترى ان الحراك العربي، على المستوى الرسمي، في هذه المرحلة، يشكل حالة صحية ضرورية ومطلوبة، بهدف دعم الحراك الدولي باتجاه المنطقة وتصويب مساراته، والتقليل من الآثار السلبية التي قد تترتب عليه، ولا تنكر هذه النظرية حقيقة الاندماج العربي في النظام الدولي، بل تعتبر أن الأمر الطبيعي هو تدعيم هذا الاندماج باعتباره احدى السمات البارزة في السياسة الدولية الحديثة. وحقيقة ان النظام العربي نظام فرعي وتابع للنظام الدولي، لا تقلل من مدى فاعلية هذا النظام، بل العكس هو الصحيح: فبقدر ما يتأثر النظام العربي بقرارات النظام الدولي، يؤثر في توجهاته وسياساته. وليس أدل من ذلك، بحسب أصحاب هذه النظرية، من أن القرار الدولي في شأن حل الصراع العربي – الإسرائيلي، ينطلق ويتأسس على مبادرة السلام العربية، التي اقرها النظام العربي في قمة بيروت 2002، وتمسك بها العرب على رغم كل الضغوط التي واجهوها. كما يعتقد أصحاب هذه النظرية بأن التطبيق العملي للسياسة، بصفتها فن الممكن، يتأتى بموازنة الخيارات، والقبول بالممكن والمستطاع، في ظل أوضاع عربية متردية ليس في الإمكان إصلاحها الآن، كما ان تسارع المتغيرات الدولية لا يمنح رفاهية انتظار تحسين تلك الأوضاع لتمكين العرب من تحقيق وقائع تفاوضية لمصلحتهم. بالطبع، لا يمكن نكران حقيقة ان المنطقة تتهيأ في هذه اللحظات التاريخية لأحداث مهمة، والمطلوب الاستفادة من التراث التفاوضي العربي ومن الزخم الديبلوماسي الدولي باتجاه قضايانا، وكذلك توظيف مناخ التصالح العربي، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون صوغ رؤية سياسية عربية شاملة. * كاتب فلسطيني