على رغم العوائق الأصلية التي تفرضها طبيعة الأيديولوجيا الانسدادية لكل من الحزبين الحاكمين في السودان: المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية - وهي اسلاموية من جهة، وعلمانوية من جهة أخرى، فإن الغرابة لا تتوقف فقط على مجرد تلك الأيديولوجيا الانسدادية واستحالة اللقاء بينها فحسب، بل في الطبيعة العسكرية والفئوية لكل من التنظيمين، الأمر الذي يزيد الوضع تعقيداً في بلد تتراكم أزماته منذ الاستقلال بطريقة تصاعدية حادة. هكذا حين توهم التنظيمان إمكانية تحقيق الوحدة والسلام والديمقراطية أثناء توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا بكينيا في 2005 كان الغائب الأكبر في الأفق الاستراتيجي هو استحالة تحقيق تلك الاستحقاقات في غياب شراكة سياسية وطنية لالقوى الحزبية كافة ضمن مناخ تعددي، وهذا ما لم يتحقق في ذلك الوقت، لكن الفرحة بوقف الحرب تم تعويمها في الأجندة الدعائية لكل من التنظيمين كما لو أنها بذاتها حلاً سحرياً لمشكلات الديموقراطية والوحدة والسلام التي يحتاجها البلد. وعلى هذا النحو تم ترحيل الأزمات المتراكمة أصلاً، وبدأت التعثرات تظهر هنا وهناك في خرق بنود ترتيبات نيفاشا لا سيما من طرف المؤتمر الوطني ولهذا أنتج هذا الوضع الغريب حالة أزمة تاريخية معقدة. فمن جهة أولى إذ يقوم الصراع عادة بين طرفي الحكومة والمعارضة خارج الحكم عبر انتخابات ديموقراطية، يبدو الوضع في هذه الأزمة مقلوباً تماماً. أي أن الصراع هنا بين طرفي السلطة - وهما طرفان تمكنا من الوصول إلى هذا الوضع بطرق لا علاقة لها بعملية الانتقال الديموقراطي في استحقاق السلطة وإداراتها - يعكس الأزمة الكيانية القائمة في صلب توجهات التنظيمين. والذي حدث من جهة ثانية هو آثار الأيديولوجية التي تتوهم رؤى اطلاقية عبر القمع والهيمنة. وهكذا حين أزف استحقاق الانتخابات شعرت القوى السياسية بما فيها الحركة الشعبية بخطورة ما يمكن أن يحدث من تزوير تم الترتيب له عبر الكثير من الخطط سواء في التعداد السكاني، أو في مراحل التسجيل أو في وفرة استخدام إمكانات الدولة من طرف المؤتمر الوطني الذي حكم السودان عبر حركة انقلابية لأكثر من 15 سنةً! غير أن الوضع الذي يؤشر اليوم إلى سيناريو قد يحمل في تداعياته انقسامات قد تفضي إلى فوضى شاملة لا يمكن القوى السياسية الأخرى أن تكون بمنجاة من أسبابه التاريخية التي أوصلته إلى هذه المرحلة المعقدة من الانسداد والاستعصاء. وعلى رغم أن خلفية الأزمة تكمن في الكثير من القوانين والقواعد التي يحكمها التخلف بصورة عامة، وما يستدعيه ذلك من غياب المبادرة الجماهيرية في العمل السياسي وتكلس الأحزاب التقليدية كحزب الأمة والاتحادي الديموقراطي وأحزاب القوى الحديثة، إلا أن مؤشرات التداعي ستعود في أسبابها الظاهرة الآن إلى نتائج سياسات نظام الإنقاذ الذي حكم السودان لمدة 15 سنةً على نحو منفرد، وخمس سنوات ضمن شراكة متعثرة مع الحركة الشعبية إضافة إلى الشراكة الشكلية للأحزاب الكرتونية التي تم انفصالها عن أحزابها الأم ضمن استراتيجية تفكيك الأحزاب الكبرى في خطة الأيديولوجية الإسلاموية لحكومة المؤتمر الوطني الحاكم. ولأن السياسة كالطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد حدث نتيجة لهذا التفريغ المنظم للعمل السياسي من معناه العام نتائج كارثية ظهرت من الهوامش والأطراف ابتداء من قضية دارفور في 2003 التي نشأت كحركات مطلبية جهوية نشطت لتحل محل ذلك الفراغ في العمل السياسي وتطورت فيما بعد إلى حركات عنف في الصراع مع المؤتمر الوطني، وكذلك في شرق السودان. ومن ثم أصبح التدويل هو الطابع العام في الصراعات الكبرى بين حكومة المؤتمر الوطني من ناحية وبين الجنوبيين والدارفوريين من ناحية أخرى. وهكذا دخل في الخط الكثير من الاجندات الدولية على خلفية الكثير من الأسباب سواء في العشرية الأولى مع نظام الإنقاذ 1989 - 1999 وما حدث من صراع مع القوى الدولية في موضوع الإرهاب على خلفية الشعارات الإسلامية للنظام، أو أخيراً في قضية دارفور حين تحولت إلى مأساة إنسانية، واستدعت تدخل المحكمة الجنائية الدولية وقرارها الذي صدر بحق الرئيس عمر البشير في 4 آذار (مارس) من العام الماضي. ومع كل هذه التداعيات الخطيرة فقد كانت حكومة المؤتمر الوطني تتعامل مع الأزمات المتناسلة بطريقة التسويف وكسب الوقت وعقد الاتفاقيات الهوائية التي لا حصر لها مع حركات المعارضة السياسية بطريقة عبثية لا تؤدي إلا إلى تضييق الخناق حولها في الأزمة التي تكاد تصل إلى ذروة احتقانها بعد شهر نيسان (أبريل) المقبل. ولأن الأزمة ذات طابع تاريخي فقد أدخلت جميع القوى السياسية في دائرة الشلل الإرادي والعجز الذاتي عن اجتراح صيغ للخروج منها. فعندما طرحت الحركة الشعبية مثلاً - وهي القوة السياسية الثانية في السودان بعد المؤتمر الوطني الحاكم - مرشحاً قدم برنامجاً طموحاً للتغيير وحراكاً فعالاً، ثم فجأة انسحب هذا المرشح بطريقة دراماتيكية من السباق الرئاسي في الانتخابات السابقة، كان ذلك في وجه آخر صورة من نوايا الحركة التي اشتغلت طوال سنوات نيفاشا الخمس بنية الاختفاء الكامل من السودان كرد فعل على سياسات ومماحكات المؤتمر الوطني والقوى الأيديولوجية الحليفة لا سيما في صناعة الكراهية التي كانت تضخها صحيفة الانتباهة للمنشق والانعزالي الطيب مصطفى. والآن حين أصبح احتمال الانفصال أقرب لليقين المطلق في الاستفتاء بعد أقل من عام بدت تصرفات حكومة المؤتمر الوطني كما لو أنها تبكي على اللبن المسكوب إذ لن يجدي بعد الآن في هذه اللحظات الأخيرة إغلاق صحيفة الانتباهة، ولا نية النائب الثاني علي عثمان محمد طه الإقامة في الجنوب على رأس وفد مكون من مئة مسؤول حكومي دعماً للوحدة. فهذه المعالجات الساذجة هي أشبه بمن يعالج مريضاً مصاباً بالسرطان بأدوية مكافحة الصداع! ربما كان من الضروري بعد الآن التفكير في آلية سلسة تضمن سلامة الانفصال بطريقة سلمية بدلاً من اللعب على مهارات الزمن الضائع. وفي ضوء ذلك يمكننا القول إن الخروج من نفق الانسدادات والأزمات الخطيرة التي تلوح في الأفق الاستراتيجي، يحتاج إلى معجزة وطنية في هامش ضيق قد لا يسمح بتحقيق المعجزات.