بعد ان اظهر الجيش اللبناني جدارة عالية في مقاومة العدوان الاسرائيلي، اعربت قيادات لبنانية وعربية عديدة عن تقديرها ومناصرتها له. هذه المواقف ستعزز معنويات الجيش اللبناني وتزيد من اندفاعه واستبساله في الدفاع عن ارض الوطن، الا انها اذا لم تقترن، في نهاية المطاف، بترجمة ملموسة لها فقد تؤدي الى ردود فعل معاكسة. ان لبنان يدخل مرحلة جديدة من الصراع مع اسرائيل. وفي هذه المرحلة تزداد الاعباء الملقاة على عاتق الجيش اللبناني. ومع ازدياد هذه الاعباء، فإنه من الطبيعي الا يكون للدعم اللفظي قيمة تذكر، وان يتوقع العسكريون مساندة حقيقية تمكنهم من تعزيز قدراتهم القتالية. ذلك ان القوات المسلحة اللبنانية دخلت دائرة الاستهداف المباشر من قبل الاسرائيليين منذ ان نجحت المؤسسة الامنية اللبنانية بسائر فروعها في تفكيك شبكات تجسس اسرائيلية، ومنذ ان اظهر الجيش اللبناني استعداداً متزايداً للتصدي للاعتداءات الاسرائيلية والى التعامل معها بلغة القتال... في المرحلة الماضية، كان من المستطاع التمييز بين لبنان المقاوم ولبنان الرسمي. كان من المستطاع ان يترك لبنان الرسمي للبنان المقاوم التعامل بالسلاح مع الاعتداءات الاسرائيلية، بينما يقوم هو - اي لبنان الرسمي - بالتعامل بلغة السياسة والمجابهات الديبلوماسية. معركة العديسة وكفر كلا وعمليات تفكيك شبكات التجسس الاسرائيلية نقلت الصراع مع اسرائيل الى مرحلة جديدة تضيق فيها امكانية التمييز بين اللبنانيين: المقاوم والرسمي. اقطاب الحكومة الاسرائيلية مثل نتنياهو وباراك، اكدوا انه لا تمييز بعد اليوم بين الاثنين وانهم سيعتبرون الحكومة اللبنانية مسؤولة عن اية مناوشات حدودية مقبلة. هذا التطور يلقي على عاتق المؤسسة العسكرية اللبنانية مسؤوليات وطنية جسيمة. اذ ندخل هذه المرحلة، لا يعود كافياً ان «يطبطب» اهل السياسة على اكتاف العسكريين اللبنانيين، وان يعطوهم شهادات في الوطنية والجدارة. في هذه المرحلة الجديدة يصبح من الطبيعي ان تتوقع القوات المسلحة اللبنانية ومعها سائر اللبنانيين المعنيين بمسألة سلامة الوطن وسيادته الحصول على سند حقيقي من النخبة السياسية الحاكمة. ومن الطبيعي ايضاً ان يتوقع الجيش اللبناني من الزعماء السياسيين الكف عن اعتبار قضية السياسة الدفاعية اللبنانية طابة يتقاذفونها بقصد تسجيل اهداف في مرامي الخصوم، والانتقال الى البحث الجاد والبناء في مبادئها وفي متطلباتها. لقد اجل النظر في هذه المسألة مراراً، واتفق على ان تبحث مجدداً خلال منتصف هذا الشهر في اطار طاولة الحوار الوطني. اذ تُعقد هذه الطاولة على وقع المعارك الحدودية، وفي اعقاب فترة سادها التوتر، فإنه من المأمول ان يتوصل المتحاورون الى تفاهم اولي على الأقل حول مبادئ السياسة الدفاعية. وحبذا لو تكف الزعامات اللبنانية الممثلة بالحوار عن بحث هذه المسألة بنهج «شعبوي» فيه تملق لمشاعر الجماعات المتطرفة من اللبنانيين، على حساب المسألة الوطنية وعلى نحو يعطل امكانية التفاهم. فهذا النهج كان يحظى ببعض الصدقية عندما كان المشاركون في الحوار الوطني منقسمين الى معارضة وموالاة، اما الآن، وبعد ان توسعت الحكومة لكي تشمل الجميع، فإن الاصرار على وجود خلافات «جوهرية» بين المؤتلفين حكومياً، وحول قضية السياسة الدفاعية اللبنانية تحديداً، بات امراً ممجوجاً. على كل حال، وحتى ولو لم تتوصل القيادات السياسية اللبنانية الممثلة في الحكم الى اتفاق قريب حول مبادئ السياسة الدفاعية اللبنانية، فإن من المستطاع الاتفاق زيادة عديد الجيش اللبناني، وهو مطلب ملح طالما كررته المؤسسة العسكرية. من المستطاع اذا اعطى اهل السياسة مسألة الدفاع عن ارض الوطن ما تستحقه من الاهتمام ان يتفقوا على تلبية هذا المطلب وإحياء خدمة العلم. طبعاً من الافضل لو ان هذا المشروع جاء في اطار الاتفاق على مجمل السياسة الدفاعية التي تحدد بدقة اكبر الاهداف المتوخاة منه وطرق تطبيقه. ولكن حيث إن الحوار على المسألة الدفاعية قد لا يحسم عما قريب، وحيث ان تطبيق خدمة العلم لا يتطلب، بالضرورة، الاتفاق النهائي على السياسة الدفاعية، وحيث ان زيادة عديد الجيش يمثل مطلباً مستمراً فإن من المستطاع تحريك قضية خدمة العلم بصورة عاجلة. هذه المبادرة تشكل تعبيراً جدياً، وربما التعبير الوحيد في الوقت الراهن، عن الاستعداد لمناصرة الجيش. ان اعطاء هذا المشروع الاولوية فإنما يعود ذلك الى الاعتبارات الآتية: 1- فيما يتطلب تعزيز القوات المسلحة اللبنانية تطوير قدراتها التسليحية، فضلا عن تعزيز عديدها، فإن تحقيق الهدف الثاني هو الاقرب والاسرع الى المنال في الوقت الراهن. فتطبيق خدمة العلم هو قرار سيادي لبناني، يخص اللبنانيين وحدهم ويستطيعوا ان يطبقوه اذا حزموا امرهم وتبينت لهم حسناته. اما تطوير القدرات التسليحية فتتطلب الحصول على السلاح من مصادر خارجية، وهو امر قد يواجه بضغوط اسرائيلية للحيلولة دونه. هذه الضغوط تجددت بعد المعارك الاخيرة بين لبنان واسرائيل إذ وجه الاسرائيليون انتقادات جديدة الى الادارة الاميركية لأنها اعطت لبنان اسلحة لتمكينه من الاشتراك في «الحرب على الارهاب». هذا المشهد يعزز وجهة نظر القائلين بأن لبنان لن يتمكن من بناء قوة رادعة ضد اسرائيل لأنه «لن يسمح له بالحصول على السلاح المناسب لمثل هذه القوة». هذا التقدير خاطئ وليس في محله. فلبنان يستطيع الحصول على السلاح من مصادر متعددة اذا امتلك المال الكافي. ولكن بين تعزيز سلاح الجيش وتعزيز عديده يبقى الخيار الاخير اقرب الى متناول اليد حالياً. 2-ان تطبيق خدمة العلم لا يعزز دور الجيش في الدفاع عن الوطن فحسب، بل يعزز دوره ايضاً في نطاق التنشئة الوطنية، وفي وضع الولاء للبنان فوق الولاء للطوائف وفوق النزعات الفئوية والتشطيرية والانقسامية. ويعزز دوره في تعويد الشباب اللبنانيين على احترام القانون ومن ثم على الحفاظ على التجربة الديمقراطية كما جاء في الكلمة التي القاها الرئيس ميشال سليمان بمناسبة عيد الجيش اللبناني. ان اخطار الاستقطابات الطائفية والفئوية تتجدد باستمرار ولكن دون ان يجد اللبنانيون وسيلة فعالة للحد منها الا الاستنجاد بالاشقاء والاصدقاء. عبر تطبيق خدمة العلم يمكن للبنانيين ان يتدبروا هم انفسهم امر هذه التحديات. 3-ان تطبيق خدمة العلم سيساعد الدولة اللبنانية على توسيع نطاق عملها على الصعيد التنموي. ففي دول عديدة طبقت خدمة العلم، يضطلع المجندون بتنفيذ برامج تنموية واسعة هذا فضلا عن دورهم في معالجة مشاكل الكوارث الطبيعية التي تحل بهذه الدول مثل الفيضانات والحرائق والزلازل. ان هذه الحوافز والفوائد لا تبطل صواب العديد من الانتقادات التي وجهت الى قانون خدمة العلم عندما طبِّق سابقاً في لبنان فبعضها كان مصيباً وخاصة الانتقادات التي اشارت الى تسلل العصبيات الطائفية والفئوية الى المجندين حيث وقعت مشاكل محدودة في ما بينهم . ولكن من المستطاع وضع قانون جديد يأخذ بالاعتبار الصواب في هذه الانتقادات ويرسخ فوائد خدمة العلم دون عثراته. * كاتب لبناني.