كلما ازدت معرفة، كلما ضمنت لنفسك مزيداً من الحرية، فعندما تعرّف الانسان على أعضاء جسده الحيوية ومما يتكون وكيف يتكون، استطاع أن يتصرف في علاج الأمراض التي تصيبه، ومعه علا سقف حريته بتطبيب نفسه، وكذلك الأمر عندما تعرّف الانسان على قوانين الكيمياء، حيث استطاع أن يخلط المقادير ويخترع الدواء، فارتفعت درجة حريته في الشفاء بإذن الله، وهكذا دواليك، وفي المقابل كلما ازداد جهل الانسان ارتفع معه شعوره بالجبرية، فمثلاً كان إنسان الماضي يعتقد أن وجوده على الأرض جبرياً لا خلاص منه إلاّ بالموت، فإذا به وبعد اكتشاف قوانين الجاذبية والدفع والطيران يتخطى المعرفة المتعلقة بالجبرية إلى إمكانية خروجه من المحيط الجوي ثم العودة إلى الأرض، وبمعنى آخر كلما زادت معرفة الانسان بالقدر زاد قضاؤه ثم حريته وانخفض مفهوم الجبرية لديه، فإمكانية الضرب باليد قدر، والقيام فعلياً بعملية الضرب قضاء وهو ما نفهمه من قوله تعالى: «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك...»، فالموت قدر، والقتل قضاء، ولولا الموت لما كان هناك قتل، فإذا عجزنا عن تفسير أحداثنا، سارعنا إلى ربطها بالقضاء والقدر، (الصحيح أنها قدر وتصرفنا هو القضاء) في قناعة كأنها جزء أساسي من العقيدة الاسلامية، وهي في الحقيقة ليست أكثر من سذاجة معرفية. كلما عب الإنسان من جهله بقوانين الطبيعة والاجتماع والاقتصاد وغيرها، زادت قناعته بمبرر الصدفة، وأكبر جهل يرتكبه المرء على الأرض أن يعزو خلقه ووجوده إلى الصدفة، وكم تغنى الشعراء بهذا المعنى! مع أن لا شيء في الدنيا بمحض الصدفة، كوننا لا نعرف سبب وجوده، لا يعني أبداً أن نعلّقه على شماعة الصدفة، وبما أن الله كامل المعرفة فهو الحر المطلق بجميع القوانين يتدخل فيها كيفما يشاء، وبما أن الانسان يبقى ناقص المعرفة، يظل تصرفه نسبياً بالقوانين، وبالتبعية حريته نسبية، لذلك تجد أنه كلما نهل الانسان من معرفة هذه القوانين، كلما اقترب من الله أكثر، أليس أكثر من يخشى الله من عباده هم العلماء؟ تريد أن تتحرر، تعلم، ازدد معرفة، اطلاعاً، لا تقف عن حدود السؤال، ابحث، تقص، شارك، هكذا فقط ستشعر بخفة وزنك المادي، وثقله المعنوي، فتقدم المعارف بالموجودات يعطينا يومياً معلومات متجددة ينمو معها وعينا بالنافع والضار، بالضحل والعميق، بالأرضية لسن تشريعات تحد من الأذى المحيط (مخدرات، تدخين، مواد سامة، احتباس حراري...الخ)، فأحد الأسباب الرئيسية لمعاداة العرب للرسول كان الجهل، لذا تجد رسول الرحمة لا يفتئ يدعو لقومه بالعلم، يقول عليه الصلاة والسلام: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»، وهو ما يلفت النظر إلى ضرورة توفر البيانات والتفاصيل المحيطة بالأمر المستجد- أياً كان- حتى لا يهابه الناس، ولا ينفرون منه نتيجة نقص معلوماتهم عنه، فيرفضونه، ويصرون على رفضه، وبخاصة إذا وجد من يصطاد في جهلهم العكر ويجيّره لمصالحه الخاصة، مقنّع يعرف كيف يعزف على الأوتار ذات الرجع الوجداني العاطفي لدى الجمهور المستهدف، إنه «سوس في العظم» وأخطر ما تبتلى به المجتمعات، فصاحبه لا يستهدف العقول المغيبة فحسب، ولكنه لا يفوّت فرصة استغلال نواحي القصور والثغرات في الموضوع المضاد حتى يملأها بأجندته، ولأن أساس ممارسة الحرية أن يكون هناك مجال للاختيار بين ضدين (مجال للنفي والاثبات)، حيث لا تعني المعرفة انتفاء الأضداد، لأن وجود الأضداد والتناقضات ببساطة هي خاصية المجتمعات الانسانية الحرة المتحضرة، فتجد أن حرية المرء تكمن في أن يختار الشيء أو خلافه عن سابق معرفة ودراية تامة، وليس لجهله بموضوع وتعلقه بآخر لمجرد معرفته به، وإنما لمعرفته بالموضوعين معاً، ثم وبكل حرية وقناعة اختيار أحدهما. [email protected]