منذ كنت صغيراً وأنا أسمع ان الفلوس لا تشتري السعادة، وبما أنني أطوي النفس على قدر كبير من الشك في ما أسمع، فقد طلبت أن أُعطى الفلوس لاختبر هذه النظرية، ولم أعطَ ولم أصدق، واكتفيت بما هو منطقي وواضح فالسعادة لا تشتري الفلوس. اليوم عندي دليل يثبت أن الشك القديم كان في محله، فمؤسسة غالوب أجرت استطلاعاً هائلاً شمل 132 بلداً بين 2005 و2009 وسئل 136 ألف شخص، مباشرة أو بالهاتف، وكانت النتيجة العامة، مع استثناءات قليلة، أن أغنى دول العالم هي أيضاً أسعدها. الاستطلاع، كما قرأت، معقد وأهم جزء منه أنه اختبر الرضا العام، أي رأي الانسان في حياته كلها، والمتعة اليومية، أو ما يسعد الانسان من أشياء صغيرة بين يوم وآخر. حلت الدنمارك أولى في الرضا العام وفنلندا أولى في المتعة اليومية، واحتلت الدول الغربية الثرية معظم المراكز الأولى مع استثناءات لافتة، وكوستاريكا في المركز السادس والبرازيل في الثاني عشر والمكسيك في الثامن عشر. ولعل السبب أن دول أميركا اللاتينية عندها سامبا ورومبا ما يعوض عن الفلوس. لم استغرب أن تحل اسرائيل في المركز الثامن ورجحت أن السبب هو أن الاسرائيليين سرقوا فلسطين من أهلها، وطلعوا براءة... حتى الآن ويعيشون على حساب دافع الضرائب الأميركي. الولاياتالمتحدة أغنى بلد في العالم غير أنها احتلت المركز الرابع عشر في القائمة ما يعيدنا الى حجة أنصار مبدأ أن الفلوس لا تشتري السعادة، غير أن جامعة كامبردرج البريطانية نشرت السنة الماضية نتائج استطلاع في الولايات الأميركية الخمسين تبين منه أن أسعد مجموعات في الولايات الأميركية هي في الجبال الغربية، ثم الغرب، وبعد ذلك الشمال الشرقي، ثم وسط الغرب والجنوب، ما يعكس ثراء هذه المجموعات، ففي الولايات الأعلى على مؤشر السعادة هناك رضا أكبر لأن الدخل أعلى والسكن أفضل والتعليم من مستوى جيد. والولاياتالمتحدة توفر لنا مثلاً آخر على العلاقة بين السعادة والمال، فهناك استطلاعات لا تنقطع حول كل ما يخطر ببال وبعض ما لا يخطر بالبال، وهي تقول إن الأميركيين كانوا أقل سعادة في السنوات 1973 و1982 و1992 و2001، وكل من هذه السنوات شهد أزمة مالية، لذلك أرجح أن استطلاعات 2008 و2009 ستظهر تراجع الأميركيين على مؤشر السعادة الخاص بهم. ووجدت وأنا أجمع معلومات عن الموضوع كتاباً من تأليف جنيفر مايكل هيكيت، وهي مؤرخة، عنوانه «خرافة السعادة: لماذا ما نعتقده صواباً هو خطأ». والمؤلفة تصر على أن المال يشتري السعادة، وهي تجعل بين أسبابها التسوق والريجيم والرياضة، وحتى تعاطي المخدرات للمدمنين القادرين على شرائها. أفترض أن ما سبق صحيح، إلا أنه ليس صحيحاً بالمطلق فلو كانت الفلوس تشتري السعادة، أو أن لا طريق للسعادة من دون فلوس، لمات أصحاب البلايين من الفرحة. ربما كان الجواب الأقرب الى الصواب هو أن السعادة غير ممكنة من دون فلوس، إلا أن هناك أسباباً كثيرة أخرى لها، وقد قرأت دراسة وجدتها منطقية فهي تقول إن الاستطلاعات تظهر أن كل صاحب دخل، من مختلف المستويات، يقول إنه بحاجة الى زيادة 40 في المئة على دخله لتزيد سعادته. والدراسة هذه قدّرت بالتالي أن الشعور بالنجاح هو طريق السعادة أكثر من المال. مؤشر السعادة الذي نشرته مؤسسة غالوب ضم 155 بلداً (بعد استطلاع الرأي في بلدان أخرى، والمجموع 96 في المئة من سكان العالم) واحتلت الإمارات العربية المتحدة أعلى مركز بين الدول العربية وهو 20، وبعدها الكويت 23، وقطر 35، والبحرين 48، والأردن 52، والمملكة العربية السعودية 58، وليبيا 67، ولبنان 73، والجزائر 85، وتونس 96، واليمن 98، والعراق 110، ومصر 115 ومثلها المغرب. واحتلت إيران المركز 81 وتركيا المركز 103. وتراجعت الهند الى 115 والصين الى 125. واحتلت دول فقيرة، أكثرها من افريقيا جنوب الصحراء المراكز المتدنية. الاستطلاع يحسم الجدل فالذين يملكون الفلوس فوق والذين لا يملكونها تحت، والدول العربية لا تشذ هذه المرة عن القاعدة، فالدول الأكثر ثراء شعوبها أسعد من الدول العربية الفقيرة، ما يطلق نظرية ثانية هي أن النفط يشتري السعادة، ونظرية ثالثة هي أن الجهل يشتري السعادة، طالما أن الدول العربية، كلها سواء في غياب الديموقراطية والجهل، فتبقى الفلوس سبباً للسعادة عند بعض، والجهل عند بعض آخر. وأكمل غداً. [email protected]