أثناء بحوثه عن تجديد الرياضيات، وقف العالم الأميركي الشهير مايكل فاينبوم أمام شلال ضخم متدفق. وأحسّ بعجز مذهل. فكّر في أن العِلم لديه معادلات رياضية لوصف مسار قذيفة أو سهم أو صاروخ، ويمتلك معادلات تصف إقلاع الطائرات وهبوطها، ومسار السيارات وتصادماتها. ولكن، عندما يقف عالم أمام ظاهرة هائلة الحراك، مثل الشلال المتدفق، فإنه يحسّ بالعجز، لأن العِلم لا يملك أدوات ولا معادلات لوصف هذه الظواهر. تلك كانت من بدايات ظهور نظرية رياضيات متطوّرة، عُرِفت لاحقاً باسم «نظرية الفوضى»، لأنها تحاول وصف الأشياء التي تحدث بصورة لا يملك العِلم أي توقّع حيالها. وتشتغل العالِمة المصرية - الأميركية مها عاشور على بحوث تتضمن تنويعات على نظرية الفوضى وتطبيقاتها تشمل بقايا الانفجارات الذرية في الفضاء، وحركة جيولوجيا الكواكب وتقلّبات الأشعة في ظاهرة الشفق القطبي وغيرها. على نحو مضطرد، تسجّل المرأة العربية إنجازات كبيرة علمياً، خصوصاً في مراكز البحوث الأميركية والأوربية، بل تتبوأ أرفع المناصب أكاديمياً وعلمياً. وتعتبر الأميركية - المصرية مها عاشور عبد الله (مواليد الاسكندرية 1944)، من الأسماء اللامعة في المغترب العلمي للمرأة العربية. وبعد تخرجها في كلية العلوم في جامعة الاسكندرية (1964)، نالت درجة الدكتوراه في فيزياء الفلك من «الكلية الملكية» في لندن. وبعدها، التحقت بجامعة كاليفورنيا في لوس انجليس، حيث عملت باحثة في معهد فيزياء الجيولوجيا والكواكب، ما يذكر بالمسار العلمي الذي سلكه علماء فضاء عرب مثل شارل العشي وفاروق الباز. نظرية الفوضى: أبعد من الفيزياء يشمل نشاط عاشور علمياً مروحة واسعة من البحوث النوعية المتقدمة. وفي لقائها مع «الحياة»، أوضحت أن تلك النشاطات تتناول فيزياء بلازما الفضاء والغلاف المغناطيسي للأرض، وعلم الشفق القطبي، والمحاكاة الرقمية، والرؤية الإبداعية لتكنولوجيا الكومبيوتر. وتنطلق عاشور من فرضية مفادها أن الفيزياء هي أم العلوم، وأن فيزياء الفضاء ما زالت نظرية يكتنفها الغموض. ولفتت إلى أهمية نظرية الفوضى («كايوس» Chaos) في الفيزياء المعاصرة، باعتبارها النظرية التي تحاول أن تفسر ظواهر يصعب التنبؤ بمسارها، ولا تخضع للقوانين المعروفة في الفيزياء، مثل حركة الإلكترونات داخل الذرة، وتدفّق المياه في الشلالات، وحركة الهواء أثناء العواصف، والهزّات الأرضية، وانفجار البراكين وغيرها. وأشارت الى أن تطبيقات هذه النظرية تشمل الاقتصاد والسياسة، إذ يحلو للبعض استخدامها لتوقّع التقلّبات في البورصة والتوترات السياسية العنيفة وغيرها. وفي نفسٍ مُشابه، تحدثت عاشور عن ظاهرة «الشفق القطبي». وقالت: «هذه ظاهرة جوية محاطة بالغموض والأساطير. وتظهر على شكل موجات ضوئية ملونة ومتحركة، تشاهد على بعد آلاف الكليومترات من القطبين الجنوبي والشمالي. وتنشأ عن تداخل رياح الشمس مع المجال المغناطيسي للأرض، ما يجعل الفضاء المحيط بكرتنا الأرضية عالماً يضج بالتيارات المغناطيسية والكهربائية والإشعاعية. ثم تظهر هذه التيارات عياناً على شكل وميض ملون يضيء سماء الليل أو على شكل موجات متتالية تؤثر في سلامة البث الفضائي والإذاعي ونقاوته، خصوصاً ما يبث على الموجات القصيرة». وأشارت إلى وجود دراسات معمقة حاضراً، تهدف لمعرفة تأثير الشفق القطبي على جو الأرض، ومعرفة تفاصيل انتقال الطاقة، وانطلاق رياح الشمس ووصولها الى الأرض، ما يعتبر مصدراً مهماً في فهم أسرار المناخ والتحوّلات الناجمة عنه. وتلفت عاشور إلى أن رياح الشمس تتكون من جسيمات مشحونة بالكهرباء والطاقة. وساهمت عاشور في تأسيس مختبر الفضاء في جامعة كاليفورنيا الذي تجري فيه بحوث عن تكنولوجيا المحاكاة الرقمية Digital Simulation. ووصفت تقنية المُحاكاة بأنها نماذج كومبيوتر تعتمد على معادلات رياضية يفترض أنها تقدر على وصف ظاهرة واقعية، ما يفسح في المجال أمام طريق علمي ثالث، يضاف الى أسلوبي البحث النظري والاختبار التجريبي. ويعتبر مختبر الفضاء في كاليفورنيا أحد أبرز مراكز الابتكارات في التقنيات الرقمية عالمياً. ووصفت عاشور ذلك المنحى قائلة: «يسعى المختبر لتسهيل استخدام التكنولوجيا الرقمية في البحوث والتدريس. وكذلك يحاول نسج علاقات متبادلة مع شركات الصناعة والجامعات وصُنّاع مواد الملتي ميديا عالمياً. ويصنع المختبر عينه برامج مُحاكاة افتراضية عن فيزياء الفضاء وبحوث الظواهر الجوّية. وتلفت عاشور الى أن هذا المختبر الذي أنشئ عام 1997، يحاول أيضاً «المساهمة في ردم الهوة الرقمية، وكذلك تطوير برامج تعليمية عن فيزياء البلازما، تُصنع بطريقة الميلتي ميديا، بحيث تصبح على هيئة أسطوانات مسجلة أو أفلام فيديو قصيرة». ويُطلق تعبير «بلازما» على مجموعة المكوّنات التي تنجم عن انفجار ذري، وضمنها تلك المُكوّنات التي تتبقى بعد الانفجارات النووية الضخمة. والمعلوم أن الفضاء مملوء بهذا النوع من البلازما، الذي يستفيد منه العلماء في دراسة ظواهر فلكية متنوّعة، تشمل أصل الكواكب وتكوّن النجوم وغيرها. تعمل عاشور منسقة في برامج الملاحة الجوية والفضاء والطاقة الشمسية والأرضية في «وكالة الفضاء والطيران الأميركية» («ناسا»)، إضافة الى كونها منسقة عِلم فيزياء الفضاء في «المؤسسة القومية للعلوم» التي تعتبر هيئة مرجعية علمياً في الولاياتالمتحدة. وكذلك تعمل مستشارة في «مختبر الدفع النفاث» في «باسادينا» بولاية كاليفورنيا، ومستشارة في «مختبر آلاموس العلمي» Alamos Scientific Laboratory في ولاية نيومكسيكو. وتشغل منصب مستشارة لدى الاونيسكو في برنامج المعلومات والاتصالات. كما تتمتع بعضوية في «لجنة فيزياء البلازما الدولية»، و«مركز غودار للفضاء» التابع لوكالة «ناسا»، واللجنة التنفيذية للوسائط الرقمية والابتكار. وكذلك تترأس لجنة الشؤون الأكاديمية في علم الفلك، ولجنة التخطيط لشعبة العلوم الفيزيائية. وألّفت عاشور 5 كتب. ووضعت مجموعة من البرامج الرقمية. وقدّمت أكثر من 200 ورقة علمية، ظهرت في مؤتمرات عالمية ومجلات متخصصة. ونالت عاشور وسام الخدمة المدنية من الجيش الأميركي (2004)، وجوائز من وكالة الفضاء الأوروبية (2005)، وجامعة كاليفورنيا والمنتدى الآسيوي للوسائط المتعددة، وشركة «صن مايكرو سيستمز». ومُنِحت ميدالية من «الاتحاد الجيوفيزيائي»، وجائزة «الإنجاز العلمي للتحقق في نظرية جيولوجيا الفضاء» وغيرها. تواصل مع العالم العربي على رغم طول مسيرتها علمياً في دنيا الاغتراب، لم تغترب عاشور. وظلّت محافظة على تقاليدها العربية ولغتها الأم. ولم تنقطع عن التواصل مع مصر والبلاد العربية الأخرى، خصوصاً في نقل المعرفة العلمية. وساهمت في صنع برامج للتربية التكنولوجية المتطورة في الكويت، حيث تحظى بعضوية في لجنة برامج التكنولوجيا والاتصالات والتعليم. وتحدّثت عاشور عن بعض المناحي الشخصية في تجربتها، فقالت: «حين كنت صغيرة، كنت أحياناً العربية الوحيدة بين زملائي الذين كانوا يرمقوني بنظرات الدهشة والاستغراب، ربما لأني كنت بينهم علامة فارقة من حيث الشكل واللغة واللهجة، فلازمني شعور بالضعف والغربة والرغبة في العودة مجدداً الى مصر». وتفخر عاشور بتجربتها في الولاياتالمتحدة، وتقول: «أميركا بلد الفرص، والنظام التعليمي فيها سهل وعملي ويقوم على التعاون بين الطالب والأستاذ، خلافاً لمثيله البريطاني الذي يعتمد أساساً على قدرات الطالب الذاتية وجهده الخاص». وأشارت إلى أن المرأة العربية، على ندرة وجودها في الجامعات الأجنبية ومراكز البحوث، ذكية وصبورة، ما يمكنها من النجاح والتنافس للوصول إلى أرقى درجات الأكاديميا والعلوم.