كيف هو صوت المدن حين يتم اغتيالها؟ كيف هي ألوان صباحاتها؟ كيف هي نسائم المساء المحملة برائحة البارود والدم؟ كيف يمضي الوقت والأبواب مغلقة والستائر مسدلة عن ضياء الشمس وعيون جنود الاحتلال؟ ما الذي يفعله البشر وهم يحصون خسائرهم من أرواح وبيوت وشجر؟شاعر المقاومة الفلسطيني محمود درويش صوّر حالة الحصار بدم الكلمات، حين قال في قصيدته: «الحصارُ هُوَ الانتظار/هُوَ الانتظارُ على سُلَّمٍ مائلٍ وَسَطَ العاصفةْ/ وَحيدونَ، نحن وحيدون حتى الثُمالةِ/ لولا زياراتُ قَوْسِ قُزَحْ/ لنا إخوة خلف هذا المدى». مدن عانت من الحصار، ومدن تمردت على الحصار، ومدن دمرها الحصار. تاريخ المدن العربية حافل بالحصارات، التي شوّهت تاريخها وحضارتها وفنونها وآثارها، بغداد حوصرت عشرات المرات، منذ زمن هولاكو وتيمورلنك والتركمان والصفويين والأكراد والعثمانيين والإنكشاريين والإنكليز والإيرانيين والهاشميين. مدينة حوصرت وهدمت وحصدت أرواح ساكنيها. بيروت عاشت ويلات الصهاينة الإسرائيليين، حوصرت وخسرت أبناءها. ومازالت آثار الحرب والتدمير تشوّه وجهها الجميل. وقبلها الموصل ونابلس والقيروان ومراكش ودمشق ورام الله... وهاهي غزة تئن تحت الحصار. لا نعرف معنى أن نكون محاصرين، فحصارنا مختلف..! ولكن أصوات المحاصرين تصلنا وضيق أنفاسهم يخنقنا. ما الذي تقوله لنا غزة في حصارها؟ الشاعر الدكتور عبدالله الفيفي افتتح بكلماته الشعرية نافذة الحصار قائلاً: «أنتِ.. يا أنتِ.. حصاري!/غَزَّةُ الآنَ تداويْ وجعَ التاريخِ فينا/ وجيوشُ الغَزْوِ تَفْتَضُّ على الجسرِ نهاري!/وجعُ الأمِّ../ ووا ويلاهُ مِن أُمٍّ إذا تُنْشِبُ في الفَجرِ يَدَيْها/ كي تَرُدَّ الموتَ عن وجهِ احتضاري!». وتشرح الروائية منيرة السبيعي حالة الحصار بقولها: «الحصار جرح يحفر في ثنايا الكرامة. يزعزع حق المناضل في الذود عن حلمه، يخلخل زوايا الآمال المنسوجة من حرير الحلم، فيغدو الباطل حقاً، والحق جوراً، وتصبح عناقيد الحرية المعلقة في سلة الأمنيات مجرد ذكرى لأمل لم يطل. ومن زاوية نفسية أتصور أن يمر الحصار ككل المواجع بمراحل متتالية لعل أسوأها في تصوري ما بعد الحصار، حالة الانكسار التي تصم الروح فلا تعد قادرة على استرجاع ما كان ولا التعايش مع الحاضر المر. لم أعش الحصار بمعناه الحرفي في الحرب، ولكنني أراه كسجن يحكم قبضته على الغد، ليضحي القادم معتماً يستحيل التكهن به، كما ولا يمكن اقتراف جرم الرجاء في أن يكون هذا القادم مشرقاً يوماً ما دون شك. نحن هنا وقلوبنا مع غزة.. تهزني أناتها المكتومة، وكلي صلاة ليشرق لها صبح لا ليل فيه، تستفيق فيه الضمائر لتهب لنجدتها ونصرتها». فيما يبوح الكاتب عبدالله الكعيد بما يسمعه من غزة وهي تقول: «هنالك خيانة.. نعم خانني أهلي الأقربون وهم من ضيّق الخناق على عنقي. أهلي رغم الشعارات التي يقولون، ورغم زعم المقاومة ورغم ادعاء البطولات أراهم ليسوا أكفاء بفك الحصار ولا حتى تنفيذ مقولاتهم الفارغة، والدليل أن الذي ينتصر لي اليوم هم من غير أهلي. إلى درجة أن الذين يتظاهرون في عواصم العالم لا يعرفون مكاني على الخريطة، لكنهم يشعرون بمعاناتي. أسمع غزّة تئن ولا تشتكي للعربان لأنها قد فقدت الثقة بكل ما هو عربي أو حتى فلسطيني. أسمع أنين غزّة بعد كل خُطبة رنانة لقائد دعيّ من أيّ فصيلة كان، وكأن غزّة تقول كفاكم التباكي على جراحي كفاكم دموع التماسيح. أبث لغزة قول شاعر ألمانيا العظيم غوته «بين كل اللصوص، الحمقى هم الأكثر سوءاً، فهم يسرقون منّا الوقت والبشاشة في آنِ معاً». ويجد الدكتور عبدالله البريدي غزة الآن «وكأنها تكتب تاريخاً جديداً للصمود بغير أنين، والتضحية بلا نفاق حين يكون حصارها يجعلها تملك قوة هائلة لحصارنا نحن، وحبسنا داخل ذواتنا المتخاذلة». ويضيف قائلاً: «لن يجرؤ أحد على كتابة شيء عن تاريخ النضال وشرفه من دون أن يستجلب صبر غزة على معاناتها وشظف عيشها بل وقسوة الإنسان، وقد أدهشني حرص غزة على تعليم أبنائها في ظروف حصار خانق وإني أعتقد أن معدلات الحضور لدى أطفال غزة لا تقل إن لم تفق معدلات حضور بقية الأطفال المنعمين، أولئك الذين غالباً ما نفشل في إكسابهم الإنتاجية والمهنية والأخلاقية. لقد أحال تخاذلنا غزة إلى أن تكون طفلاً بلا حليب، ومريضاً بلا علاج، وبيتاً بلا سقف، وأماً محتارة بين أصناف الطعام التي ستزين بها نهار أولادها «المتخمين أو مساءاتهم». ويذكر الشاعر والإعلامي محمد عابس تجربته الكتابية عن الحصار فيقول: «يبدو أنه ثقافة إنسانية همجية متوارثة على مرّ العصور، ينتهجها من غابت عندهم آفاق القلم والكتاب والمعرفة والحضارة لصالح السلاح والبطش والبلطجة، فما إن تستيقظ مدينة من حصارها حتى تقع أخرى في سراديب الأحزان، والشعر هو أكثر الفنون تعاطفاً وتعاطياً مع كل تلك الفجائع وتواصلاً مع الرفض والمقاومة وإعادة البناء، وخديناً لا يمل الإنسان مرافقته في أحزانه ولوعاته وخيباته كزاد ودعم وتصبير وتهيئة وتحفيز للبحث عن طلائع الفجر بالتغيير مهما طالت أستار الليل وضربت أطناب خيامها في الشرايين. فجعنا بحصار بيروت وغزوها فكتبت ضمن من تفاعلوا قصيدة: «رسالة حب لبنانية» و«نسيج لا ينتهي» وكتبت في الهم العراقي «صوت العراق» ولكن فلسطين القضية هي الأعرق والأقدم فجرحها عميق جداً، فكانت الكتابة لها هاجساً إنسانياً وحضارياً بكل مدنها وقراها، بكرمها وعنابها، بزيتونها وزعترها، بدبكتها وكوفيتها، بمروجها وغاباتها، بصوت الأذان والنواقيس، بالأنوثة والطفولة، بحنين المبعدين وأنات الشيوخ». ويرى عابس أن القصيدة تحس بالعجز وتشكو الضعف، «القصيدة مع روافدها الفنية الأخرى من مسرح وموسيقى وتشكيل ودراما وإعلام، لم يعد لها ذلك التأثير المرجو فسقطت وسقطنا معها مغشياً علينا من هول الصدمات وتوالي النكسات وتتابع الخيبات، كتبت «أوبريت صوت القدس» وهو عمل درامي شعري تتكامل فيه عناصر الأوبريت الفنية، ولكنه لم يجد من يتبناه وينفذه». «حينما يمتزج الحجر بالدم» نص شارك به مع مثقفي الوطن الذين يبثون غزة لوعة الألم الإعلامي والشاعر عبدالوهاب العريض، فيقول: هم الحصار على غزة. طفلة تشردها الشوارع، سيدة ترفع ذراعيها في الهواء، والشاشة الفضية تتنقل بين العواصم والبحر، ألم هنا ووجع هناك، والذاكرة لا تشعر بحالة من الهدوء. تلك عواصم كنا نسمع عنها وسافرنا لها عبر الشاشة، ولكنها اليوم لا ترحمنا فهي تنقل ما تبقى من الأشلاء لتشعرنا بحالة العجز، ما عادت الأقلام كما السابق، وصرخة «وامعتصماه» تجعل الحبر يسيل على ورق الشعراء، اليوم ونحن نقبع بين اللحظة والأخرى، ربما صرخة علقت بداخلنا ولكن الأحاسيس ما عادت كما هي، توقيع بيان ووضع بصمة على نكران الفعل، تشعرنا بنشوة الحلم، ونصرخ في داخلنا «الله يعينهم»، ونذهب إلى غرفنا البعيدة، ونتناول رواية أو قصة أو ديوان شعر، ونردد مع محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة». الشوارع المضرجة بالدماء، مخيلة الأبنية المتراكمة على الأرض، شكل الصواريخ وهي تقذف على الأبراج السكنية، وفنادق ومنازل يسكنها أبرياء، ذنبهم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، لا يستطيعون النزوح بين المكان والآخر، ولا شوارع تحميهم ولا أنظمة».