على غير الشائع في أغلب الدراسات النحوية الأكاديمية، تبوّأت بحوث العلاّمة علي أبو المكارم ومؤلفاته مكانةً سامقةً في حقل البحث النحوي واللغوي على حدٍّ سواء، فأصبح رائد منهجية جديدة في تناول تاريخ النحو، والتقعيد للظواهر اللغوية والنحوية، باستقراء القديم وهضمه، ومعرفة إيجابياته والبناء عليها، والسلبيات التي وقع فيها وأهمية تلافيها، والاطِّلاع على أحدث النظريات المتعلقة بنشأة النحو العربي والإفادة منها، من دون الانبهار المطلق، والوقوع في أسرها. وفي أطروحة قدمها أخيراً إلى الجامعة الأردنية بعنوان «جهود الدكتور علي أبو المكارم النحوية، دراسة وصفية تحليلية»، يؤكد الباحث الأردني سالم خليل الأقطش، أن هذه الدراسة تهدف إلى الوقوف على جهود أبي المكارم النحوية، من خلال استقراء ما تضمنته كتبه من آراء ونظرات في النحو العربي. ومعلوم أن أبا المكارم يعد من المؤلفين المُكثرين في التأليف النحوي، إذ إنه ألَّف ثمانية عشر كتاباً تناولت النحو بالدراسة والتحليل من مناحٍ مختلفة وجوانب متعددة، وغلبت عليها المعالجة المنهجية لأساليب القدماء في وضع النحو وتقنينه، وحاول أبو المكارم من خلال هذه المؤلفات قراءة التاريخ النحوي وفق المنهج التحليلي؛ فلم يُسلّم بكل ما قرره السلف وتَبِعه فيه الخلف، بل سعى إلى محاكمة الروايات، والوصول إلى نتيجة فيها للدارسين مَقنَعٌ، وقد حاول -أيضاً- لمَّ شتيت الظواهر اللغوية في كتابٍ ينتظمها، ويكون للباحثين مرجعاً؛ فتناول ظاهرة التصرف الإعرابي، وظاهرة المطابقة، وظاهرة الترتيب بالتأصيل والتأسيس. كذلك عرض أبو المكارم أصول النحو في التراث، والتطور الدلالي الذي أصاب بعض المصطلحات النحوية، كالقياس، والاستقراء، والتقعيد، والتعليل، ومصادر اللغة، وبيَّن أثر التغيير في مدلول هذه المصطلحات عبرَ رحلتها الزمنية، كل ذلك في محاولةٍ لإعادة قراءة التراث بما يتناسب وروح العصر. وتناول أبو المكارم الجملة العربية بالدراسة والتأصيل، والتحليل والمناقشة، فلم يقف عند حدود ما قرَّره النحاة من أنواع الجُمَل، بل تجاوز ذلك - وفقاً لمنهجه في فهم نظرية الإسناد - إلى زيادة الجملة الظرفية، والجملة الوصفية، والجملة الشرطية، واستجاب لداعي التيسير النحوي؛ فخرج علينا بمجموعةٍ من المؤلفات التي تناولت قضية تيسير النحو من زاويتين: نظرية حاول من خلالها بيان الأُسس والمعايير المتبعة في تيسير النحو. والزاوية الأخرى: تطبيقية، حاول من خلالها أن يُسقط هذه المعايير والأُسس في كتابٍ يكون مرجعاً لمتعلمي النحو، والمبتدئين. ويقول الباحث: «وقد تواصل عطاء أبي المكارم في ميدان النحو العربي مدةً تربو على نصف قرن، فحاول قراءة التراث النحوي بمنهجية جديدة لا تُعيد اجترار ما أقرّه القدماء، بل تحاول جاهدة قراءته من منطلقات علمية ومنهجية حديثة، فيبتدئ من التحديد الدقيق لعلم النحو، وخصائصه، ومادته، ويكشف عن منهجية القدماء في تقنينه، وإعادة بعثه بحُلَّةٍ تتواءم والمستجدات الحياتية والفكرية الحالية، ومتطلباتها الآنية، وانتهاءً بوضع منهجٍ علميٍ جديد لهذه المادة التي شغلت الباحثين ردحاً من الزمن، فحاول جاهداً أن يعيد قراءة التاريخ النحوي منذ نشأته، ومروراً بمراحل نضجه وتطوره، ومدارسه حتى استوى علماً قائماً بذاته، من هنا قدم أبو المكارم نتائج بالغة الأهمية في التاريخ النحوي جعلت منه رائدَ التأصيل العلمي للفكر النحوي العربي، ووضعته في مصاف علماء عصره، حتى أضحى-بفضل مؤلفاته النحوية، وقراءاته المنهجية- مدرسةً يقتفي الدارسون أثرها. المنهج التوفيقي وعلى رغم السمت التراثي الذي يلف تصانيف أبي المكارم، إلا أنه لم يكن تراثياً صرفاً، ولا معاصراً بحتاً، بل كان بين ذلك قَواماً، فدعا إلى منهج توفيقي يضم إلى جانب التراث كل ما هو معاصر، وحاول أن ينتحي طريقاً لا يدين فيها للقديم، ولا يعنو للجديد. وحول هذه القضية يقول الأقطش إن أبا المكارم رفض نسبة تقسيمات النحو وتعريفاته وأبوابه إلى عصر الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي، مُبيناً أن هذا التقسيم قائم على الإسراف في ذكر الجزئيات والتفاصيل التي ما كان لها أن تصبح في مجال الدرس الموضوعي بغير أسلوب منهجي، لأن هذا يكون من صنع أجيال عديدة ومشاركتها، وتفاعل ثقافات واسعة وخبرات شتَّى، وهو الأمر ذاته الذي سبق إليه أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام». وفي ما يتعلق بهذه القضية، يرى الأقطش أن أبا المكارم انتهى إلى جملة من النتائج التي يطمئن إليها البحث المنهجي، وهي: أن اللحن لم يكن وحده هو الدافع لوضع علم النحو، كما أن وضعه لم يكن عملاً فردياً، بل تضافرت مجموعة من العوامل الدينية والاجتماعية والفكرية دعت إلى ضرورة وضعه. كما رأى أبو المكارم أن نشأة النحو العربي كانت عربية خالصة، وأن معالم التأثر بدأت تظهر زمن الخليل بن أحمد، بخاصة أيام سيبويه وتقسيمه الكلمة. وذهب أبو المكارم إلى فساد نظرية المدارس النحوية، فأكد وحدة الأصول العامة في التفكير النحوي، على اختلاف تجمعاته، واصطلح بدلاً من (المدرسة) اسم (التجمعات النحوية). ونفى وجود مدارس بالمعنى الذي يقطع بوجود منهج متميز لكل مدرسة، ودفعه هذا اليقين العلمي إلى عدم التمييز بين الفروقات المنهجية للمدارس النحوية في تناول الظاهر اللغوية. وأثبت الباحث مدى تأثُّر الدكتور تمام حسان بآراء أبي المكارم، بخاصة عند حديثه عن ظاهرتي «التطابق» و «الترتيب»، فقد تناولهما الدكتور تمام تحت اسم «المطابقة» و «الرتبة» ليُبعدَ عن نفسه شبحَ ذلك التأثر. كما لاحظ أن أبا المكارم رأى أن منهج التعليل النحوي أصابه شيء من التغيير والتطور في القرن الرابع الهجري؛ فلم يعد يقف عند حدود تبرير الأحكام النحوية فقط، بل حدث انقلاب في العلاقة بين التقعيد والتعليل، فأصبح تلمُّس العلل هدفاً رئيساً في البحث النحوي، وأنه بمقتضاه يمكن أن تعدل القواعد لتتسق مع التعليلات، وهو ما اصطلح عليه باسم (العِلة الجدلية). كما فرَّق أبو المكارم بين القياس الاستقرائي والقياس الشكلي، وأن القياس الأول هو الشائع في البحث النحوي، خلافاً لمحاولات النحاة عندما احتجوا بالقراءات الشاذة وبالحديث النبوي أخذاً بالقياس الشكلي، عساه أن يُرفدهم ببعض ما يحتاجون إليه في قواعدهم. ولعلي أبي المكارم دراسات قيمة، منها: تاريخ النحو العربي، وأصول التفكير النحوي، وتقويم الفكر النحوي، والظواهر اللغوية في التراث النحوي، ومقومات الجملة العربية، وتعليم النحو العربي، والحذف والتقدير في النحو العربي، والتعليم والعربية.