لم تكن الضجة التي أثيرت حول الصمت الإعلامي الذي أعقب رحيل الشاعر السوري محمود السيد قبل أسابيع قليلة سوى مفارقة سوداء بامتياز، تضمر بؤس ثقافتنا العربية، التي لا تزال تحركها ذهنية المناسبة، حزناً أو فرحاً. فالكاتب العربي يولدُ ويموت في ملفّ ثقافي فحسب. ثم يصمتُ النقدُ عنه مرّةً واحدةً وإلى الأبد. ألم يحدث هذا مع سركون بولص وبسام حجار وعلي الجندي وهاني الراهب وبوعلي ياسين وممدوح عدوان وسنية صالح، والقائمة تطول وتطول. أين هي حركة النقد التي لا تعير المناسبة كبير اهتمام، أو لا تنتظرها على الأقلّ، وتركّز على منجز هذا المبدع أو ذاك، في معزل عن الحدث الآني العابر؟ هل يكفي ملفّ في جريدة، على أهميته بالطبع، لإنصاف مسيرة الكاتب نقدياً؟ وماذا يحدث بعد كلّ ملفّ؟ ماذا يحدث بعد كلمات التأبين، وقصائد الرثاء، واستنزاف فعل «كان» حتى الرّمق الأخير؟ النسيان بالطبع. الاهمال. أليست هذه علامة من علامات إفلاس ثقافة بأكملها، لا تقرأ المنجز الأدبي أو الشعري أو الفكري لمبدعيها، ولا تلتفت إليه، إلاّ بعد وفاةٍ مفاجئةٍ أو جائزةٍ مفاجئة؟ هذا البؤس كشفت عنه، من دون شك، بعض ردود الفعل التي هاجمت صمت الصحافة، بعد رحيل محمود السيد، وبخاصة أن أصحاب تلك الردود، كانوا هم أنفسهم «صامتين» طوال حياة محمود السيد (1935-2010)، التي آثرت التخفّي، والابتعاد من الأضواء، في العشرين سنة الأخيرة، بعد حياة حافلة، مهنياً، بدأها السيد، عملياً، عام 1970 بترؤس جريدة «الثورة» السورية، وختمها بترؤسه تحرير مجلة «ألف» الطليعية، في بداية التسعينات، هذه المجلة التي استطاعت، خلال فترة وجيزة، أن تُطلق جيلاً جديداً من الكتاب السوريين لم يكن يعرف أحد عنهم شيئاً، وتكرس نصاً جديداً استفاد كثيراً من حضور السيد الشعري. وبعد توقف المجلة في سنتها الثالثة، آثر السيد الصمت، والانزواء في محراب فنّه، وحياته الخاصة، رسماً وشعراً وتأملاً، هو القائل في إحدى قصائده: «آه، ما أبلغه الصّمتُ يسهرُ في الورد/ فيقوّضُ الخطابةَ والكلامَ/ ما أبلغه الصمتُ يسهرُ في العشق/ مبتدئاً تلاوة النهار». مع ذلك، لا يستطيع أحد تبرير الصمت الذي أعقب رحيل الرجل، وإن كنت أعتقد أنه لن يضير السيد بشيء، هو الذي آثر الصمت العرفاني الراقي في نصّه، وبخاصة بعد قصيدته النثرية الشهيرة «مونادا دمشق» بأقانيمها الأربعة، التي حركت المشهد الشعري السوري في السبعينات آنذاك، بعدما نُشرت، ممهورةً، بمقالات نقدية لممدوح عدوان وفائز خضور ويوسف سامي اليوسف. ولكن لن يضير السيد البتّة ألا يكتب عنه أحد، بعد وفاته، فالضجيج الإعلامي ليس، بالضرورة، خدمة لحساسيةٍ مرهفة، أصيلة، نمت وتبلورت في الظلّ، وربّت شغفاً نادراً بالسكينة الروحية، التي تعلّم الشاعر كيف يلوذ بها، هرباً من ضجيج العالم وقسوته: «من يعلّمني الإصغاء فلا أرى العازفَ؟ من يعلّمني العزفَ فلا أرى نفسي؟» وواضحٌ أنّ الأنا عند محمود السيد، لم تكن مركزية، أو محورية، وبخاصة في شعره، إذ إنه لطالما أحبّ أن تذوب في أنا الآخر، المحبوب، عشقاً وهياماً وتصوفاً، كما يوحي خطابه للسهروردي في هذا المقطع: «يا سهرَ الوردِ... علّمني كيف أغمض جسدي وأقرأُك،/ كيف أنامُ وتصحو بي،/ كيف أكونكَ،/ ولا أشبهكَ/ كيف أصلُ إليكَ، ولا أصل». وقد يكون محمود السيد، المنسي نسبياً، دفع، ربّما، ضريبة مجاورته اسمين كبيرين ما برحا يثيران «الضجّة» في الشعر السوري والعربي، على السواء، هما محمد الماغوط وأدونيس. والطريف أن حساسية السيد لا تتقاطع مع أيّ من هذين الشاعرين، بل إن ميزته الأوضح هي سعيه للانحراف بعيداً منهما، وتحديداً تجنّب المباشرة الماغوطية، التي تصل أحياناً حدّ الفضيحة، والابتعاد من الابهام الأدونيسي الذي يصل أحياناً حدّ الطلسمية. اختار السيد طريقاً ثالثة، لا تنزل بالعبارة إلى ضجيج الشارع، وحزنه اليومي، وتناقضاته اللحظية، ولا تسرف كثيراً في رقصة الصّور والرموز والاستعارات. بل اختار المكوث في برزخ العبارة الصافية، التي تجمعُ بين صحو المجاز وكثافته، وبين وضوح المعنى وعمقه. اختار أسلوباً حائراً، يعكس حقاً حيرة وجودية وصوفية عميقة. فقصائده، التي حرّكت سكوناً في آخر الستينات، بدءاً من «مركبة الرّغبة»، (1967)، مروراً بديوانه «مزامير ديك الجنّ»، (1978) ومن ثم قصيدته «مونادا دمشق»، مالت أكثر فأكثر، في دواوينه الأخيرة، إلى صمت صوفي هادئ، مقارنة مع صخب «مونادا» بنبرتها الجديدة، ولغتها الصادمة، وفكرتها الفلسفية التي يشير إليها عنوانها «مونادا»، المشتق من كلمة «Monad»، وتعني الوحدة أو الجوهر الفرد، بحسب فلسفة الألماني ليبينتز. وهذه القصيدة تحديداً كانت محاولة بارعة للخروج من نسق قوي كان بدأ يحفر مساره باتجاهين متناقضين: الماغوطية بما تمثّله من انتماء الى الهامش والعابر والثانوي، والأدونيسية بما ترمز إليه من رغبة في تكريس القلق والشكّ والتخطّي. اختار السيد لحظة العرفان سبيلاً للاختلاف والفرادة، أسلوباً ورؤيا، وركز على البعد الأسطوري، الاشراقي، في التراث الشعري، بعيداً من شغف شعراء الستينات بالشعارات الأيديولوجية. وشعر محمود السيد، الذي ينتمي إلى جيل أواخر الستينات، برموزه البارزة كممدوح عدوان وفائز خضور ومحمد عمران وسواهم، ظلّ يصارعُ لترك بصمة خارج هذين الاتجاهين، وبخاصة في كتبه الشعرية الأخيرة، التي اتجهت نحو التصوف العشقي وليس الديني، كما في ديوانيه «تتويج العشب»، (1998) و«سهر الورد» (1998)، وهذا الأخير يستعيد صورة الصوفي القتيل السهروردي، ومكابداته الروحية. في هذين الديوانين، يخرج السيد من اللّغة المعيارية الجاهزة، وينظف المفردات من ترجيعاتها المجازية المألوفة، ويتجه أكثر إلى جلاء الرؤيا، فغدا الصوتُ برهان ذاته، والحبيب علامة النفي القصوى، في بلاغة أكثر ميلاً الى العرفان العشقي منها إلى رصانة العقيدة، حيث تتماوج بين الحسّي والرّوحاني، في محاكاة ضدّية، ربّما، لمخاطبات النفري الشهيرة: «أقولُ لقلبي كن تختَ زنبقٍ لحبيبي فيكون/ أقول لقلبي كن وسادةَ دفء لحبيبي فيكون/ أقول لقلبي/ توقّف/ لئلا تؤرق حبيبي فيتوقف/ أقول لقلبي/ استرح لحظةً من حبّ حبيبي، فيعصيني قلبي/ ويفرّ مني إلى حبيبي». (من ديوان «سهر الورد»). يفرّ قلب محمود السيد - هذا الشاعر الرائي - من ضجيج التاريخ وقيوده وقوانينه، ليتّحدَ بلحظة العرفان القصوى، التي لا بداية لها ولا نهاية. يختار زنبق العشق ملاذاً وغايةً، كي يعلو على الآني والعابر، وكي يستمرّ قلبه في الخفقان طويلاً بين الكلمات التي تجيدُ حقّاً بلاغةَ الصّمت.