الضجة التي تشهدها الولاياتالمتحدة حول المركز الإسلامي المزمع بناؤه في مدينة نيويورك تكشف عن تحول نوعي في التعاطي الثقافي الأميركي مع الإسلام ديناً ومجتمعاً وحضارة وتشير إلى تواصل الانحدار في علاقة تعاني لتوّها من التنميط والتأحيد والأحكام المسبقة. وإذا كانت الضجة في معظمها قد دخلت صلب الثقافة الأميركية من هامش كان بالأمس معزولاً، فإن الصمت إزاءها في سائر هذه الثقافة يحمل بدوره دلالات. لم تكن العلاقة بين الثقافة الأميركية وما يمكن تلخيصه وإن تعسفاً بالشأن الإسلامي مأزومة في أصولها. فعلى رغم أن الولاياتالمتحدة تحمل الإرث الأوروبي، وهو الذي يتفاعل مع المسلم بصفته الآخر الخارجي، فإن الأسس التي قامت عليها الثقافة الأميركية في تبجيلها حريةَ المعتقد وفي انتقائها سوابَقها التاريخية قد مكّنتها من تجاوز أوجه عدة من المخلفات الأوروبية في الشأن الإسلامي، وإن بأشكال متراوحة تداخلت فيها عوامل متضاربة، لا سيما منها مكانة إسرائيل في الوجدان الأميركي والريبة من الاستئثار (العربي أو الإسلامي) المفترض بمصادر النفط. فمع العقد الأخير من القرن الماضي، كان التحول في الثقافة الأميركية يسير باتجاه توكيد أصالة المكوّن الإسلامي في الولاياتالمتحدة. فكما شهد وسط القرن الماضي إعادة تعريف للخلفية المعنوية للثقافة الأميركية من المسيحية إلى اليهودية المسيحية، فإن نهاية القرن كادت أن تكرّس هذا التعريف بصيغة اليهودية المسيحية الإسلامية. ثم كانت اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001. وهذه الأحداث لم تنشئ المواقف المعادية للإسلام من العدم، إذ كان لهذه تواجد وإن مكبوحاً في الهامش الثقافي، ولكنها مكّنتها وأطلقت العنان لطروحات اقتصارية أمعنت في تأسيس مقولة التعارض بين الانتماءين الإسلامي والأميركي (وهي مقولة تستفيد صراحة من الجهود الموازية للغرض نفسه في أوساط الاختزاليين الإسلاميين). وقد تمكنت هذه الطروحات على مدى الأعوام الماضية من تحقيق اختراقات ثقافية بارزة، أهمها إرساء القناعة لدى العديدين بأنه ثمة حالة عداء قائمة اليوم بين الإسلام والولاياتالمتحدة، مع ما يستتبع هذه القناعة من إصرار على التصوير التأحيدي لكل ما ينضوي على وجه إسلامي من المجتمعات والثقافات والأشخاص. وقد يكون الواقع الثقافي الأميركي اليوم لا يزال منقسماً بين أقلية على قناعة بالعداء بين الولاياتالمتحدة والإسلام وأكثرية لا تعلم إذا صحّ توصيف العلاقة بالعداء أم لا، إلا أن الأقلية تشهد المزيد من التنامي، فيما موقف الأكثرية يتطور باتجاه المزيد من النقد للإسلام، وإن لم يندرج بعد في إطار العداء الصريح. والقاسم المشترك بين هذه المواقف وإن كانت لا تزال على تباين هو إسقاط أحادية على الإسلام تتوافق مع الطرح العقائدي للإسلاميين فيما هي تتعارض مع واقع التعددية الذي عاشه المسلمون ولا يزالون في مختلف مجتمعاتهم وأقطارهم. وهذه التحولات التأصيلية للعداء مع الإسلام تستفيد اليوم من مسعى أهلي في مدينة نيويورك لبناء مركز اجتماعي إسلامي، على مسافة قصيرة من موقع برجي مركز التجارة العالمي واللذين انهارا إثر اعتداءات الحادي عشر من أيلول. فهذا المسعى، على رغم تأكيد أصحابه طابعه الاجتماعي التواصلي الانفتاحي، قد أتاح المجال لتعديات كلامية مشينة على الدين الإسلامي من أكثر من جهة، ومن بينها أحد الزعماء المفترضين لحركة «حفلة الشاي» المحافظة، وجمهرة من المعلقين السياسيين، من دون أن تلقى إساءاتهم الإدانة أو التوبيخ من زملائهم. وللمقارنة فإن هذا الزعيم المفترض قد تعرض للفصل بعد إقدامه على مزايدة كلامية أقل وطأة بأقدار في شأن الأفارقة الأميركيين. وحتى في أوساط المعتدلين المزعومين، فإن الدعوة تتكرر إلى امتناع طوعي من قبل الجهة الأهلية صاحبة المشروع عن إقامة المركز الاجتماعي، مراعاة لشعور أسر الضحايا وعموم الأميركيين. وفي هذه الدعوة التوفيقية اسمياً بحد ذاتها دلالة على مدى تعمّق القناعة بالعداء مع الإسلام، فالمعتدي عام 2001 وفق هذه القراءة لم يكن جماعة من الإرهابيين، بل الإسلام نفسه ككم أحادي، وإن التزمت الولاياتالمتحدة (ككم أحادي آخر) عدم التصريح بهذه «الحقيقة» من باب التسامح والمحافظة على التواصل. وباستثناء عمدة مدينة نيويورك، والذي اتخذ موقفاً حقوقياً مبدئياً يؤكد حرية البناء من دون تدخل من الدولة، فإن الضوضاء المعادية للإسلام باسم صون مشاعر أقارب الضحايا حيناً وباسم الدفاع عن البلاد أمام غزوة تهدف إلى التمهيد لاحتلالها وأسلمتها أحياناً، لم تواجه بنقد ونقض لا من النخبة الفكرية ولا من الأوساط السياسية. بل المزايدة في هذا الشأن هي المعيار، كأن تتوالى الاعتراضات على بناء المساجد أو أن يصدر عن إحدى المرشحات في ولاية تينيسي كلام يشترط على المسلمين أن يتبرؤوا جهاراً من التطرف وإلا فهم غير مرحب بهم. وليس من المتوقع أن يعمد الرئيس باراك أوباما إلى تصويب الخطاب، وهو الذي اجتهد خلال حملته الانتخابية لاستبعاد أي رابط بينه وبين الإسلام، فإسهاب أوباما في أنقرة والقاهرة حول الصفحة الجديدة بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي يقابله صمت مدوٍّ له في واشنطن، واقتراب الانتخابات النصفية ثم ما يليها لن يحفزّه على تبديل تملّصه من الموضوع. فالولاياتالمتحدة تشهد، في التعامل الثقافي والاجتماعي مع الشأن الإسلامي، انحداراً خطابياً وأخلاقياً يستدعي مواقف مشابهة لذاك الذي اتخذه وزير الخارجية الأسبق كولن باول حول صحة انتماء أوباما إلى الإسلام (وهو ما دأب أوباما على نفيه)، إذ أشار باول إلى فساد السؤال وإلى تناقض من يطرحه مع قيم الانفتاح والتعددية في الولاياتالمتحدة. إلا أن كلام باول المبدئي لم يشكل تحولاً في التدهور في التصوير الأميركي للإسلام. واقع الأمر أن الفكر الإسلامي، بالمعنى الواسع للمصطلح، يواجه تحديات تستوجب جرأة ونقداً ذاتياً على أكثر من مستوى، والواقع أيضاً أن طروحات التصدي لهذه التحديات نادرة وقاصرة. ولكن هذا لا يعفي الولاياتالمتحدة، ثقافة ومجتمعاً ودولة، من الالتزام بقيمها في الشأن الإسلامي كما هي تلتزم بها في غيره من الشؤون، وإلا فالخسارة من نصيب الجميع.