هل صحيح أن العسكريين القدامى لا يموتون أبداً كما صرح الجنرال ماكارثر أمام لجنة الاستماع بالكونغرس بعد أن عزله الرئيس هاري ترومان عقاباً له لعدم طاعته للأوامر التي أصدرها له بعدم التصعيد مع الصين في خضم الحرب بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية؟ إذا كانت هذه الصيحة التي أطلقها الجنرال ماكارثر تعبر عن عنجهية عسكرية قصوى، فإنها تعكس في الوقت نفسه العلاقات المعقدة بين الساسة المدنيين والقادة العسكريين! والموقف نفسه حدث - كما ذكرنا في مقالنا الماضي – حين أقال الرئيس باراك أوباما منذ أسابيع قليلة الجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأميركية في أفغانستان. والسؤال الذي ينبغي إثارته هنا هو ما تاريخ وطبيعة العلاقات المعقدة بين المدنيين والعسكريين؟ إن ما يطلق عليه في علم السياسة «العلاقات المدنية العسكرية»، تصف العلاقات بين المجتمع المدني ككل والمؤسسة العسكرية، التي أسست لكل تدافع عنه. وهي بعبارة أخرى تصف العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية. والدراسات في هذا الموضوع تنطلق من قاعدة أساسية مبناها أن سيطرة المدنيين على العسكريين أفضل في كل الأحوال من سيطرة العسكريين على الدولة. والمشكلة التي يركز عليها الباحثون في هذا الميدان، هي معرفة كيف أسس مبدأ أن المدنيين لهم اليد العليا على العسكريين، والطرق التي تم بها الحفاظ عليه. والبحث في هذا الميدان لا يقتصر فقط على علم السياسة. بل إن علوماً متعددة تشارك في دراسة هذه الإشكالية، مثل علم الاجتماع والقانون والفلسفة وعلم النفس والدراسات الثقافية والأنتروبولوجيا وعلم الاقتصاد والصحافة والدراسات العسكرية. وهذه المباحث المتعددة تعالج في الواقع موضوعات شتى، من أبرزها السيطرة المدنية على العسكريين، والعسكرية باعتبارها مهنة لها تقاليدها الخاصة، والحرب، والمؤسسات العسكرية. والبحث في هذا المجال لا يقتصر على بلد واحد، ولكنه يتسع بنظرة مقارنة ليشمل دولاً متعددة لها ثقافات مختلفة. والمناقشات النظرية يمكن أن تمتد لدراسة دور الأطراف الأخرى في المجتمع بالإضافة إلى الدولة، والاتجاهات السياسية التي يمكن أن يتبناها العسكريون، كما هي الحال في الولاياتالمتحدة الأميركية مثلاً. وقد يكون لظهور النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا والنزعة العسكرية المتطرفة في اليابان، وهي الدول التي كونت ما أطلق عليه في الحرب العالمية الثانية «دول المحور» في مواجهة ما أطلق عليه دول «العالم الحر» أثر في إثارة التساؤلات حول خطورة عسكرة المجتمع، بحيث يصبح للعسكريين اليد العليا على المدنيين. وقد أدت تطورات الحرب الباردة وما أدت إليه من قرار الولاياتالمتحدة الأميركية بالاحتفاظ بجيش ضخم تنتشر قواته في مختلف أنحاء العالم، إلى التساؤل حول هل يمكن السيطرة عليه من قبل دولة ديموقراطية ليبرالية. ويمكن القول أن رواد هذا الموضوع هما عالم السياسة الأميركي الشهير صمويل هنتنغتون الذي نشر في السنوات الأخيرة كتابه عن «صراع الحضارات»، وكذلك عالم السياسة الذي تخصص في الموضوع وهو موريس جانوفيتز. وقد قاد هذا النقد صمويل فينر الذي قرر أن أطروحات كل من هنتنغتون وجانوفيتز قد لا تصدق في الدول النامية، ما يتيح الفرصة للعسكريين للتدخل في السياسة. وقد يدعم هذه الأطروحة أن عدداً كبيراً من الانقلابات العسكرية قد حدث في أنحاء متفرقة من العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، خصوصاً في الستينات والسبعينات. والظاهرة نفسها لوحظت في أميركا اللاتينية. ولو نظرنا إلى العالم العربي لوجدنا الظاهرة نفسها، فقد قامت انقلابات عسكرية في سورية منذ عام 1949 بقيادة حسني الزعيم. وبعد ذلك توالت الانقلابات العسكرية لحزب البعث في كل من سورية والعراق. ولعل أبرز انقلاب عسكري عربي هو انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر الذي قاده الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر، ثم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد معمر القذافي في ليبيا. ولعل كل هذه الانقلابات هي التي دفعت كثيراً من الباحثين والمفكرين العرب لبحث تأثير المؤسسة العسكرية على الممارسة الديموقراطية في الوطن العربي. وهناك أبحاث متعددة تناولت إشكالية العلاقات المدنية والعسكرية نشرت في المجلات المتخصصة وتناولت كثيراً من الموضوعات، من أهمها الطريقة الأوروبية في الحرب، وتركيز السلطة العسكرية، والمقارنة بين العلاقات المدنية والعسكرية في الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، والوضع الخاص للعسكريين في تركيا، والمنصوص عليه صراحة في الدستور. والأطروحة الأساسية التي صاغها صمويل هنتنغتون في كتابه الأساسي «العسكري والدولة»، أن الفرق الجوهري بين العسكريين والمدنيين أن الفئة الأولى عادة ما تتبنى اتجاهات محافظة، في حين أن الفئة الثانية غالباً ما تتبنى اتجاهات ليبرالية. وكل من المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية لها قيمها الخاصة ومعاييرها التي تزن بها الأمور. والسؤال هنا كيف يمكن للمؤسسة المدنية أن تهيمن على المؤسسة العسكرية وتضبط حركتها؟ والإجابة التي يقدمها هنتنغتون على هذا السؤال هي «الاحتراف العسكري» Professionalism. ويعني بذلك التركيز على عملية التنشئة العسكرية، خصوصاً بالنسبة الى فئة الضباط، باعتبارهم العناصر العسكرية المحترفة، وليس الجنود الذين يخدمون لفترة موقتة ثم يتركون الخدمة العسكرية. وهذه التنشئة العسكرية تركز على قيم الانضباط، وتنفيذ الأوامر بغير مناقشة، والتضحية بالذات في سبيل الوطن. وهم – نتيجة هذه التنشئة - يكونون عادة على استعداد للخضوع للأوامر الصادرة عن قادة السلطة المدنية، وعلى رأسهم بالطبع رئيس الجمهورية، الذي يعد القائد الأعلى للقوات المسلحة وكذلك وزير الدفاع. والوسيلة المثلى لإدارة العلاقات بين المدنيين هي أن السلطة المدنية هي التي تحدد الأهداف للمؤسسة العسكرية في حالات الحروب أو المواجهات العسكرية، على أن تترك طريقة التنفيذ للقادة العسكريين ولا تتدخل في أعمالهم. ولو أردنا أن نبتعد قليلاً عن الفروض النظرية ونظرنا إلى العلاقات بين المدنيين والعسكر في الوطن العربي، لاكتشفنا أنه في حالة مصر – على سبيل المثال – بعد انقلاب 23 يوليو 1952 والذي تحول إلى ثورة بحكم المشروع القومي الناصري الذي ركز على بعد العدالة الاجتماعية لجماهير الشعب العريضة، سلمت قيادة الجيش المصري لأحد الضباط الأحرار وهو عبد الحكيم عامر والذي كان برتبة رائد ورقي إلى رتبة لواء مرة واحدة، وبعد ذلك رقي إلى رتبة مشير. استطاع عبد الحكيم عامر بحكم شخصيته الكارزمية أن تكون له شعبية طاغية بين صفوف قادة وضباط القوات المسلحة، وحول الجيش إلى مؤسسة عسكرية تأتمر بأمره هو وليس بأمر رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر، والذي حاول عبثاً تحديد سلطاته من طريق تشكيل «مجلس للرئاسة» يضم كبار أعضاء مجلس قيادة الثورة ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لأن المشير عبد الحكيم عامر رفض تحديد سلطاته وهدد بالاستقالة. كان ذلك عام 1964 حيث قام عامر بما يطلق عليه «الانقلاب الصامت»، حيث منع الرئيس جمال عبد الناصر من التدخل في أي شأن يخص القوات المسلحة. ثم جاءت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 بكل أصدائها العميقة، وما ترتب عليها من تنحية المشير، ما أدى إلى انتحاره. ومنذ هذا الوقت صفيت المؤسسة العسكرية تماماً، وتحول الجيش المصري إلى جيش محترف بكل معاني الكلمة، بحيث يخضع القادة العسكريون للقادة المدنيين. ونتيجة لذلك استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تبدع في حرب أكتوبر 1973، وتحقق إنجازات عسكرية عالمية. ويضيق المقام عن تتبع حالات هيمنة العسكريين على السياسة في سورية والعراق وليبيا، ما يؤكد أن العلاقات المدنية العسكرية ومشكلاتها المتعددة لا تتعلق فقط بالدول الديموقراطية المتقدمة، ولكنها أخطر بكثير في الدول النامية لافتقارها إلى التقاليد الديموقراطية الأصيلة. * كاتب مصري