لا تقلقوا ولا تخافوا ولا ترتبكوا ولا تسيئوا الظن ولا تجعلوا الوساوس تأخذكم بعيداً، فلست أنا المقصود بهذا الكلام، فأنا سأبقى ولن أذهب لا بعيداً ولا قريباً، وإذا ذهبت وغبت لفترة فسأعود إن شاء الله، لكن مَنْ المقصود بهذا الكلام أو بهذا العنوان؟ ولكي نتعرف عليه عن قرب دعوني أقص عليكم قصة لكي نأخذ منها العبرة، ولكي نتعرف على هذا المجهول الذي إذا ذهب فلن يعود، واعذروني إذا لم أكن دقيقاً في سرد قصتي. يقال إنه في أحد الأيام في الزمن البعيد اجتمع ثلاثة عابري سبيل هي «المال والعلم والشرف»، وكان كل واحد منها في طريق واجتمعوا مصادفة عند احد الآبار لكي يشربوا منها ويطفئوا ظمأ العطش، وبعد الراحة الذي أخذوها، جلسوا لكي يعرف كل واحد منهم قصة الثاني... فقام «المال» وتكلم أولاً وقال: أنا عصب الحياة ومن دوني لا يستطيع الناس العيش، فأنا أكون في يد من يستحقني وأوهب له نفسي وأكون سنده وعونه، ومهما كنت قليلاً أو كثيراً فلا يستطيع الناس الاستغناء عني، فمن دوني لا يستطيعون شراء أي شيء، فأنا موجود في كل مكان في البنوك، في الجيوب، في المحال التجارية، ولدي أشكال وألوان وأسماء مختلفة، فمني الريال والدينار والدرهم والدولار، ومهما ضعفت قيمتي سأبقى أنا الأقوى. ثم قام «العلم» وبدأ يحكي قصته فقال: أنا أقوى منك أيها المال، لأنك لا تستطيع أن تشتري العقول، ولا تستطيع أن تشتري الشهادات، ولا تستطيع أن تثقف أي جاهل، فأنا نور الدنيا، وهناك فرق كبير بين الجاهل والعالم، فأنا أمنح طالبي ومن يحتاجني كل النور الذي يحتاجه وأوسع له مداركه وأجعله يتعلم عن كل أمور الدنيا والعالم من أقصاه إلى أقصاه، وإذا ذهبت من عند شخص تجدني عند آخر، ولم أبخل على أي طالب علم، فأنا سهل الحصول علي ومن يطلبني يجدني بين يديه، ولكي أكون سهلاً على أي شخص يحتاجني فأنا سهلت طريقة الحصول عليّ، فمنهم من يقتنع بالشهادات الأولية، ومنهم من يطلب الشهادات الإعدادية، ومنهم من يتطلع إلى الشهادات العليا، فأنا لست حكراً على أحد، فأنا الكل وأنا للكل. أما «الشرف» فبقي صامتاً يستمع لهما ولجدالهما ولم يعلق على كلامهما، واستغرب المال والعلم من سكوته واستغربا أكثر عندما طلبا منه قول قصته فوجداه يبكي بحرقة، واندهشا من هذا التصرف وتوقعا انه يحمل هماً كبيراً يطبق على صدره، فألحا عليه كثيراً لكي يعرفا قصته وحكايته وسبب دموعه، فعدل من جلسته ومسح دموعه التي ما زالت تتساقط على وجنتيه وبدأ بسرد قصته فقال: أما أنا إخواني فوجودي سر كرامة الإنسان، وأنا جزء من الأخلاق والصفات الحميدة، كالكرم والصدق والوفاء وهذه الأخلاق والصفات جزء من ديني الإسلام الذي علمني ومنحني كرامة امنحها لغيري، ومن يستغني عني فأنا في غنى عنه، فقاطعه المال قائلاً نريد أن نعرف سبب هذه الثقة التي تتكلم بها، فأجابه «الشرف» قائلاً: ثقتي استمدها من ربي ومن رسولي اللذين علماني المعنى الحقيقي لي، وبدوري علمته للآخرين من يوم خُلِق آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فعلى رغم سهولة الحصول علي لكني أيضاً صعب الوصول لأي احد، فليس كل إنسان يستحق أن أكون معه وأن أكون ملكه، ومن فقدني فقد خسر إنسانيته وآدميته ولن أعود له أبداً، ومن كسبني فقد كسب حب الله ورسوله والناس. فجاء دور «العلم» ليقاطع حديثه سائلاً له: نريد إذاً أن نعرف سبب بكائك وسبب هذه الدموع الحارقة التي ما زالت تتساقط كأنها المطر، ونريد أن نعرف سبب قولك إنك إذا ذهبت فلن تعود أبداً، فحاول أن يتمالك نفسه لكي يكمل حديثه، مجاوباً «العلم» ومخاطباً «المال» أيضاً، فقال: أنت أيها المال على رغم حاجة الناس إليك إلا انك لا تستطيع أن تشتري لهم السعادة ولا تستطيع أن تجمل صورة شخص فقد آدميته، ووجودك مع كل الناس يفقدك قيمتك، فأنت مع الطفل والفقير والغني والأمير والملك والوزير والعامل والموظف، فأين كرامتك وأين قيمتك مع كل هؤلاء، فبسببك تُدَمر دول وتسقط حكومات، ويُشترى بك الأسلحة التي تدمر وتخرب وتقتل الأبرياء، فأنت إذاً سبب كارثة البشر حتى لو أفدتهم قليلاً لكنك تضرهم كثيراً، أما أنت أيها «العلم» فلك قيمة كبيرة ولكن لمن يستخدمك الاستخدام الصحيح، ومن يستعين بك على تطوير وتنوير عقول البشر وبسببك وصل الإنسان إلى القمر ووصل إلى ما هو ابعد من القمر، وبسببك تطور الطب والهندسة والتكنولوجيا الالكترونية، لكنك أيضاً بسببك استخدمك الناس الاستخدام السيئ، فمنهم من اخترع القنابل، ومنهم من طور أسلحته التدميرية، ومنهم من اخترع السلاح النووي الذي يهدد بقاء البشرية على وجه هذه الأرض، فأنت على رغم أن لك قيمة كبيرة وفائدة عظيمة لكنك تبقى رخيصاً لمن يأخذك إلى الاتجاه الخاطئ، أما أنا فمن دوني لا يستطيع أي شخص مهما كان أن يربحك أيها «المال»، ولن يستطيع الحصول عليك أيها «العلم»، فأنا موجود في ضمير كل شخص الطالح منهم والصالح، أنا عماد الأخلاق فكل الصفات تدور حولي، ولن يكون هناك كرم من دوني، وصعب أن يكون هناك صدق في غيابي، ومستحيل أن يعم الوفاء وأنا ضائع وغيرها الكثير من هذه الصفات، أما سبب بكائي ودموعي فهي أيامي المعدودة التي أعيشها في زمننا الحالي الذي أصبح الغالبية من البشر إن لم يكن الأكثرية منهم بدؤوا بالاستغناء عني، وهنا قاطعه المال والعلم معا قائلين له حتى هذه اللحظة لم نعرف سبب دموعك ونريد أن تعطينا أمثلة وأدلة على كلامك، فالتقط «الشرف» أنفاسه قائلاً حسناً سأعطيكم أدلة كثيرة لتبرهن لكم عن مدى صدق كلامي، أين «الشرف» في والد يضرب ولده حتى الموت؟ وأين الشرف في ابن يسرق والده ويقتله؟ وأين الشرف في ولد عاق لأبيه ولوالدته؟ وأين الشرف في ولد يحجر على والده؟ وأين الشرف في أخٍ لا يثق في أخيه؟ وأين الشرف في زوج يخون زوجته في بيت الزوجية؟ وأين الشرف في معلم لا يقوم بمهنته المقدسة والشريفة أفضل قيام؟ وأين الشرف في طالب يكسر زجاج سيارة معلمه؟ وأين الشرف في صاحب عمل لا يعطي موظفيه حقوقهم لمدد طويلة؟ وأين الشرف في تجاوز بعض ضعاف النفوس الإشارات المرورية وقطعهم لها ضاربين بعرض الحائط كل القيم والأصول، والضحية هي أرواح الأبرياء؟ وأين الشرف في التجاوزات المرورية من اليمين إلى اليسار وبالعكس من دون إعطاء أي إشارة؟ وأين الشرف في الأخطاء الطبية التي أصبحت كثيرة هذه الأيام؟ فهل يعقل أن ينسى طبيب مقصه داخل بطن مريضه، أو هل يعقل أن تستهين ممرضة بحياة مريض؟ وأين الشرف في قيام بعض ضعاف الأخلاق برمي المخلفات من زجاج مركبته؟ وأين الشرف في ضياع حقوق المظلومين؟ وأين الشرف في نظافة البيوت والشوارع والحدائق العامة والمساجد والمطارات؟ وأين الشرف في تجاهل اللافتات الإرشادية، مثل شخص يقف يدخن بجانب لوحة مكتوب عليها «ممنوع التدخين»؟ وأين الشرف في غني يملك مالاً كثيراً وينفقه على السهرات الحمراء وغيرها؟ وأين الشرف في علم يدمر البشرية ويدمر الأرض؟ وأين الشرف في إنفاق الآلاف في مجون وفحش في السفر إلى الدول الأوروبية؟ وأين الشرف في أكل لحم الأخ ميتاً؟ وأين الشرف في أكل الربا وقول الزور وأكل مال اليتيم؟ وأين الشرف في قطع الأرحام؟ وأين الشرف لدى أصحاب ورش تصليح السيارات وعدم مخافتهم الله في إتقان عملهم؟ وأين الشرف في أصحاب صيانة الأجهزة الكهربائية في تخريبها بدلاً من إصلاحها؟ وأين الشرف في... وفي... وفي...، توقف «الشرف» قليلاً عن الكلام مخاطباً أصدقاءه وهم لا يدرون ماذا يجيبونه قائلاً لهم تريدون أن أكمل أم أن أقف هنا؟ فقالوا له يكفي نحن نعلم أنه لو استمررت بالحديث فلن تنتهي ولن تتوقف، ونحن نعلم أن هناك أدلة أكثر بكثير مما ذكرتها، نعم نحن نقر ونعترف أنك أفضل منا، عندها ختم «الشرف» كلامه قائلاً: الآن هل عرفتم وفهمتم لماذا قلت «إذا ذهبت فلن أعود أبداً». [email protected]