مطلع حزيران (يونيو) 2015، وداخل مركز لتجنيد الأطفال في مدينة الموصل، عصب مقاتلون من تنظيم «داعش»، أعين محمود إبراهيم (15 سنة) وزملائه، حين انطلقت حافلة متوسطة الحجم بهم إلى وجهة يجهلونها، طوال الطريق الذي قطعوه في أكثر من ساعة كانوا يستمعون إلى أناشيد تبشر بالنصر والجنة. توقف الباص وبدأ أحدهم بتحرير أعين المتطوعين الصغار، ورحب بهم: «أهلاً بأشبال الخلافة!». الوصف الذي نقله شقيق محمود، عن تفاصيل الرحلة والمكان الذي تدرب فيه شقيقه الأصغر، يؤكد انه «معهد عبدالله بن عمر» في قضاء تلعفر والذي يحاكي الأكاديميات العسكرية كونه يمزج بين الدروس النظرية الدينية والتدريبات العملية على السلاح والقتال، وهو يضم متطوعين من مختلف الجنسيات والغالبية فيه تركمان، وهو معروف بالالتزام العالي والتدريبات القاسية ودقة التنظيم، وتتراوح الدورات فيه بين شهر الى شهرين. فور وصوله ملأ محمود مع بقية المتدربين استمارات المعلومات الشخصية والتحصيل الدراسي والمهارات الرياضية ومدى الخبرة في استعمال السلاح. بعدها تم انتزاع هواتف المتطوعين المحمولة، ووزعت عليهم بزّات مرقطة موافقة لمقاساتهم. في المعهد، الذي شغل بناية مدرسية جديدة «لا ينادى الأطفال بأسمائهم إنما يكون لكل منهم كنية ترتبط باسم العشيرة أو القرية أو المدينة أو البلد»، يوضح شقيق محمود «اللغة السائدة هي العربية ثم التركمانية حتى خلال التواصل مع أطفال من جنسيات أخرى، الجميع يحاول تدبر أمر الحديث باللغة العربية، ولو بركاكة». تدريبات قتالية ودروس فقهية بدأ نشاط محمود، ومعه عشرات الصبية الآخرين، في اليوم الثاني لوصولهم، بالاستيقاظ لأداء صلاة الفجر، تلتها استراحة قصيرة، ومن ثم حصة التدريب البدني وبعدها تناول الفطور، فتمارين الفنون القتالية. وعند الظهر يصلّي «الأشبال» جماعةً، ثم تأتي فترة راحة لنحو ساعتين. وفي قاعات تشبه صفوف المدارس الحكومية يكون التركيز في الدروس الشرعية على العقيدة السلفية التكفيرية، وأبرزها مقرر في التوحيد والفقه السلفي وفقه الجهاد، وهي إصدارات خاصة بمعسكرات «داعش» أعدتها «هيئة البحوث والإفتاء في الدولة الاسلامية». وبعد صلاة العصر يبدأ التدريب على استعمال الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، ثم تلقى الدروس الشرعية مجدداً بعد تناول وجبة العشاء. خلال فترة تواجده، فرض على محمود ورفاقه أن يحفظوا ما لا يقل عن جزء واحد من القرآن (20 صفحة) حتى نهاية الدورة. «الولد ذكي... لم يجد صعوبة في ذلك... بل إنه حفظ سوراً إضافية مستغلاً وقت الفراغ قبل ان تدق ساعة النوم (العاشرة ليلاً)»، يقول شقيقه متفاخراً. ومع وصول البرنامج إلى مراحله النهائية يقسم المتطوعون وفق قدراتهم ومهاراتهم إلى مجموعات أساسية، وهي القوات الخاصة، والدفاع الجوي، وكتيبة القنص، وجيش الخلافة. ويرسل أضعف الأطفال بنيةً جسمانية إلى جيش العسرة، وهي القوة التي يشكّلها التنظيم عند الحاجة، وتشبه قوات الاحتياط لدى الجيوش النظامية. يوضح شقيق الصبي المتطوع أن القوات الخاصة تؤدي مهمات نوعيّة كالقتال في الأماكن والظروف الصعبة، ويقوم الصبية في هذه المجموعة بمزيد من التدريبات القاسية على الاقتحام وقواعد الاشتباك. أما جيش الخلافة فهو «جيش داعش الاعتيادي» ويضم كتيبة الانغماسيين (الانتحاريين) وصنوف أخرى كالدروع والمشاة. بيعة الموت لكي يتم التطوّع يرسل الصبية بعد انتهاء الدورة التدريبية إلى عوائلهم لمدة أسبوع على أن يعودوا بعدها لأداء «بيعة الموت»، فيجري توزيعهم بعدها على القواطع في الجبهات أو في «دواوين الدولة» أو الهيئات «الشرعية». هناك يتقاضون مرتبات تترواح بين 50 و120 دولاراً أميركياً مع حزمة من الامتيازات الأخرى، كالحصول على «الغنائم» والمشتقات النفطية وأولوية العلاج في المستشفيات لهم ولأسرهم. محمود الذي أثبت مهارة بدنية واضحة خدم في «جيش الخلافة» وشارك أكثر من مرة في هجمات ضد قوات البيشمركة الكردية في ناحية بعشيقة شمال نينوى. وبعد إصابته بجروح بليغة في ساقه ويده اليمنى انتقل إلى المحكمة الشرعية ليؤدي فيها مهمة إدارية ويتقاضى راتبه. بخلاف حالة هذا الصبي سبق وأن سجلت حالات لأشبالٍ بايعوا لكنهم انسحبوا في ما بعد. وكان التنظيم في بداية سيطرته يتعامل معهم بتهاون، لكن مع ارتفاع خسائر التنظيم البشرية، فرض تشديدات وأصبح الأمر أكثر خطورة. فعندما قرر فتحي الحديدي ترك التنظيم وذهب ليسلم مسدسه، فرض عليه مسؤوله إرجاع الأثاث الذي حصل عليه سابقاً كغنيمة، وعاقبه بالعمل لمدة شهر كامل في حفر الخنادق قريباً من قضاء تلكيف شمال الموصل. فتحي الذي يبلغ من العمر 14 سنة وكان قد تخرج من معسكرات البعاج، قضى بقصف لطائرات التحالف الدولي عندما استهدفت آليات الحفر، في الثاني من شهر أيلول (سبتمبر) 2015. يعلق خاله على ظروف مقتله بالقول: «لقد ذهب الفتى ضحية تصرّف متهوّر عندما ركب موجة داعش. والده متوفٍ وأمه بذلت جهداً كبيراً لإقناعه بالعدول عن قراره». ويتابع: «طلبنا من داعش دليلاً على موته فحصلنا فقط على نثرات من قميصه وبعض المتعلقات التي كانت بحوزته». معسكرات متنقلة فضلاً عن معسكر عبدالله بن عمر في تلعفر، تم رصد أربعة معسكرات كبيرة أنشئت لإعداد الأطفال ما لبثت أن اتخذت صفة متنقّلة تجنّباً لضربات قوات التحالف. بينها معسكر «أبي مصعب الزرقاوي» الذي أنشئ في أيلول (سبتمبر) 2014 بمقر فوج طوارئ شرطة نينوى في منطقة الغابات شمال الموصل. ووفق أبو وليد وهو أحد عناصر «داعش» فإن الوجبات الأولى من المتطوعين تلقوا تدريبات أساسية فيه، لكن ضربات التحالف الدولي الجوية أدت إلى إغلاقه في إيلول (سبتمبر) 2015 وتحوله الى معسكر متنقل. وفي خريف العام 2014 التحق نحو مئة متطوع بمعسكر «سلطان أبي أحمد الجبوري»، أول المعسكرات التي افتتحت في ناحية الشورة (جنوب الموصل). «لم يمضِ أسبوع واحد حتى سمعنا دوي انفجارات قوية هزت المنازل، ثم شاهدنا أعمدة دخان متصاعدة. أسفر القصف عن قتل نحو 70 شخصاً بينهم صبية لا تتعدى أعمارهم 12 سنة» يقول علي سلامة الجبوري أحد سكان الناحية. ويضيف: «منذ ذلك الحين تجرى التدريبات البدنية في أماكن مختلفة في العراء». ولتجنب القصف اتخذت معظم المعسكرات الأخرى صفة متنقلة كما هي حال معسكر «الكندي» في منطقة الحدباء شمال الموصل الذي بات مقره الرئيس خالياً اليوم إثر غارة جوية عنيفة في نيسان (أبريل) 2015. ورصد معدو التحقيق بعض الأماكن المتفرقة يتدرب فيها الأطفال على السلاح وهم يرتدون أقنعة قماشية سوداء تغطي كامل رؤوسهم وبزات رمادية أو سوداء اللون، أبرزها معمل الألبسة الجاهزة في منطقة المنصور جنوبالمدينة، وكلية الإمام الأعظم في الحي الزراعي شمالها. تلك المعسكرات، التي تؤكد مصادر التنظيم استقبالها لنحو 4500 «شبل متطوع» خلال عام ونصف العام من حكم التنظيم لنينوى وأجزاء واسعة من غرب العراق، بما تقدمه من تدريبات عملية على استخدام الأسلحة ودروس تتركز على أكثر الأفكار الدينية تشدداً، كفيلة في تخريج أطفال متمرسين في القتل، مثل الطفل الذي أطلق النار على رأس الشاب حاكم سوعان الشمري الذي أعدم بتهمة تزويد التحالف الدولي بإحداثيات ومعلومات عن مقار التنظيم، وفق شريط فيديو وزعه التنظيم في مطلع آب (أغسطس) 2015. الطفل منفذ العملية كان قد تلقى تدريبات في معسكر البعاج لإعداد «أشبال الخلافة» الذي يتم تغيير موقعه بين فترة وأخرى ضمن نفس القضاء. عيون للدولة لا تخرج معسكرات التدريب بالضرورة مقاتلين، فكثير من أولئك الصغار يتولون مهمات استخبارية لمصلحة «داعش» ويطلق عليهم اسم «العيون». وهو ما يؤكده أستاذ سابق في جامعة الموصل اعتقل التنظيم شقيقه بتهمة سب الذات الإلهية، فعثرت عائلته عليه بعد أسبوعين جثة هامدة في ثلاجات الطب العدلي. يروي الأستاذ الجامعي أن العائلة كشفت هوية الواشي وهو طفل عمره 15 عاماً، لكنها غير قادرة على محاسبته. «كل شيء مؤجل إلى ما بعد تحرير الموصل» يقول. يزيد خطيب الجامع أبو عبيدة على كلام الاستاذ الجامعي بالقول إن عشرات الضحايا أعدموا بناء على معلومات مصدرها أطفال. «نحن نحصي كلماتنا جيداً قبل التلفظ بها، فالأولاد الذين ندرّسهم يراقبوننا». بين هؤلاء العيون، يبرز في حي الرسالة جنوبي الموصل الفتى ثامر المكنى ب أبو صخر، والذي يقضي نهاره جائلاً في أسواق المدينة يدقق بعين مدربة وجوه العابرين ويصغي باهتمام شديد للحوارات التي تفلت منهم في الطرقات او داخل المحال التجارية والمقاهي والمساجد. أبو صخر الذي لم يكمل بعد عامه الخامس عشر، والذي جنده التنظيم مع ثلاثة صبية آخرين في ذات الزقاق صيف عام 2015، يتفاخر بمعرفة أهالي الحي بأمره، كما لا تقابل أمه الأرملة وأختاه ذلك بأي حرج، فالعائلة مؤمنة بالدولة الإسلامية التي قتل على طريقها والده بعد أن أصابته قذيفة مدفعية في سنجار غرب نينوى في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2014. الطفل كان محط إعجاب مدربه التونسي الحاج أبو ذر، خلال الأشهر الثلاثة التي قضاها في التدريب بمعسكر الغزلاني شرق الموصل، بسبب قدراته في الحفظ، فقد كان الأفضل ذهنياً من بين 183 صبياً تواجدوا معه في المعسكر، وهو ما أدى إلى إلحاقه بجهاز «الأمنية» المكلف بالمهمات الاستخباراتية، والذي يرتدي عناصره ثياباً مدنية ووجوههم حليقة ولا يحملون أسلحة، فيما الحق آخرون بجهاز «الحسبة» المكلف بمراقبة تطبيق أوامر الدولة الإسلامية. الانتحاريون «أراد الجهاد فمنعته أمه، وذات ليلة تسلل من البيت لينضم إلى جيش الخلافة، وهو اليوم في الخطوط الأمامية يقاتل الكفار». هذه تغريدة نشرها حساب «تويتر» يروّج للدولة الاسلامية عن صبي عمره 15 سنة. بالطريقة نفسها التي تحدثت عنها التغريدة فقدت عائلة الحاج أحمد في آب (أغسطس) 2015 ابنها البالغ من العمر 16 سنة، وتبين فيما بعد أنه التحق بدورة دينية، ومن ثم بأحد معسكرات التدريب، بعد توبيخ والده له بسبب مشكلة خاصة. من خلال عملية بحث استمرت يومين ساهم فيها الأقارب والجيران عُثر على الصبي بمعسكر «أبي مصعب الزرقاوي» في منطقة الغابات شمال المدينة، وعندما تمكنت العائلة من استرجاعه بوساطة أحد عناصر التنظيم، اتفق جميع أفرادها على التعامل معه بحذر ومحاولة إقناعه بعدم العودة للتدريب. شقيقه الكبير حسين يقول: «تصديت لمهمة التعامل مع شقيقي وبدأت برصد راتب شهري له قدره 50 ألف دينار، ولمزيد من الاطمئنان طرحت عليه فكرة الزواج وقد تحمس للأمر حتى صارت شغله الشاغل حالياً». قصص عديدة عن الأطفال الملتحقين بمعسكرات «أشبال» التنظيم في الموصل، وثقها كاتب التحقيق، حيث يردد الأهالي عبارة تقول: «إذا فقدت ابنك لأكثر من ساعتين فابحث عنه في أقرب معسكر». التأخر في الوصول الى الملتحقين بتلك المعسكرات يعني صعوبة استردادهم، ليكون مصيرهم إما التحول الى عيون للتنظيم داخل المدن، او انتحاريين في جبهات القتال، وهو أكثر ما تخشاه العائلات الموصلية، إذ إن النسبة الأكبر من العمليات الانتحارية ينفذها مراهقون. يقول، ابو عمر، وهو تاجر مواد غذائية على علاقة جيدة مع أمراء التنظيم في تلعفر، ان «الدولة الاسلامية تعتمد في الغالب على الأشبال والشباب الصغار، لتنفيذ العمليات الانتحارية، هؤلاء من جهة لا يملكون خبرات قتالية، ومن جهة ثانية هم أكثر حماسةً وأشد استجابة، واذا كانت العمليات داخل مدن العدو فإن تسللهم أسهل». ووفق ليلى زروقي، الممثلة الخاصة في الأممالمتحدة المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة، فإن نحو 700 طفل قتلوا أو أصيبوا بتشوهات مستديمة في أنحاء مختلفة من العراق منذ بداية العام 2014 جراء استخدام البعض منهم اثناء هجمات انتحارية. فيما وثق المرصد العراقي لحقوق الإنسان في تقرير يغطي النصف الأول من العام 2015 تنفيذ 40 طفلاً من نينوى والأنبار عمليات انتحارية أثناء المعارك في المناطق التي تقع بين قضاء بيجي ومدينة تكريت في صلاح الدين. جيل آخر من المتطرفين «تجنيدهم لا يتعلق فقط بتعويض الخسائر البشرية على جبهات عدة، فالخطة المعلنة هي تهيئة جيل جديد من المتطرفين يحمل لواء دولة الخلافة في المستقبل»، يقول خالد حبيب، وهو صحافي يغطّي نشاط الحركات الجهادية منذ عام 2004. يعرض الصحافي الموصليّ تسجيلاً بحوزته يظهر فيه خطيب شاب في «جامع الغفران» وسط المدينة، يرتفع صوته فجأة وسط دهشة مصلّي يوم الجمعة المحتشدين قائلاً: «حتى إن خسرنا هنا أو هناك فإننا باقون»، ثم يرفع قبضته اليمنى المشدودة الى فوق ويصرخ مشيراً على ما يبدو إلى أحد الأطفال لا يظهر في التسجيل: «نحن باقون. أشبال الخلافة سيكبرون ويرفعون راية الإسلام». ملامح هذا «الجيل الجديد» يمكن التعرف إليها بسهولة في المناهج التي أصدرها «ديوان التعليم» في تشرين الأول (اكتوبر) 2015. فالرسوم التوضيحية في الكتب المدرسية ككتاب «التربية الجهادية» مثلاً، تجسد فتية يرتدون لباس «داعش» ونساء منقبات إلى جانب أسلحة مختلفة كالمسدس والرشاش وغيرها. وفي مادة الرياضات للصف الأول الابتدائي هناك عشرات العمليات الحسابية عن عدد جنود الدولة الإسلامية وولاياتها. أما إشارة الزائد فألغيت واستبدلت بحرف الواو... لأنها تشبه الصليب. غير أن حبيب يؤكد أن أبناء مدينته يقاومون رغبة «داعش» في غسل أدمغة أولادهم. فعشرات الجوامع عزفت في عام 2015 عن تنظيم دورات صيفية للأطفال بأعذار شتى «بعضها تذرع بانقطاع الكهرباء أو فقد المازوت وبعض المدرّسين التمس أعذاراً صحيّة». كما أن العديد من المدارس الابتدائية اغلقت لعدم التحاق الأطفال بها، تجنباً لأخطار الدراسة فيها، أو «تحدياً لارادة التنظيم» كما تقول المدونة ليلى الشايب التي تكتب باسم مستعار من داخل الموصل. كما أن المدارس الثانوية (تتراوح أعمار الطلاب فيها بين 13-18 سنة) اندمجت، كل اثنتين او ثلاث في واحدة، ويقتصر الدوام على يومين أو ثلاثة في أحسن الأحوال خلال الأسبوع. حميد خضر توقف عن إرسال ولده إلى المدرسة رغم تفوق الأخير، بعدما علم بزيارات وفود «الدولة» إلى الصفوف الدراسية لكسب المزيد من الأتباع. يقول خضر: «دخل وفد من ديوان الدعوة والمساجد إلى صفّ ولدي ووجّهوا بعض الأسئلة للمدرّس ثم سألوا التلاميذ أن يبايعوا الخليفة». ويتابع: «صمت الأطفال لبرهة ثم رددوا نص البيعة بتلعثم وبصوت خافض... سألهم الوفد أن يعيدوا الكرة فكانت النتيجة نفسها، فأنّب الوفد المدرّس وطلب منهم تكرارها بصوت أعلى... وعندما لم يلقَ تجاوباً من الأولاد خرج غاضباً». يضيف الرجل: «من يومها منعت ولدي من الذهاب للمدرسة. لقد خسر عامه الدراسي، ويبدو أنه سيخسر المزيد من الأعوام، لكن هذا أفضل من أن يصبح الولد شبلاً عند البغدادي!». ما بعد «داعش» ويرى مثنى سلمان، وهو ناشط مدني، ان التنظيم بتجنيده للأطفال «أحدث مشكلة (ثقافية - أمنية) مزدوجة سيصعب معالجتها حتى بعد تحرير نينوى بسنوات، فهؤلاء الذين غسلت داعش أدمغتهم سيظلون يشكلون خطراً مستقبلياً، انهم يمثلون بيئة خصبة لتفجر العنف في اية فرصة يرونها متاحة». يتفق معه المحامي الموصلي شاكر مراد، لكنه يشير الى مشكلة اخرى تتعلق بالتعامل القانوني مع هؤلاء: «البالغون ممن يتجاوزون ال 18 سنة، يمكن أن يحكموا بالإعدام وفق القوانين العراقية، لكن الأمر مختلف بالنسبة الى اليافعين، فمحكمة الأحداث تحكم بالحبس لأقل من خمس سنوات أو السجن بأكثر من ذلك». ويضيف: «هنالك تخوف كبير من أن يفلت من العقاب عدد كبير من الصبية المتورطين بارتكاب جرائم قتل عمداً، والبعض يرى أن لا أمل مطلقاً في إصلاحهم ولا بد من بترهم بالقتل او احتجازهم. ومن سيحبسون قد يخرجون بعد سنوات أكثر تشدداً في سجون ينعدم فيها التأهيل. هي مشكلة كبيرة ما زال المشرع العراقي ساكتاً عنها». يقول الناشط والمحامي دلير احمد، ان الكل يتحدث عن تحرير الموصل عسكرياً وكأنه سيحمل الخلاص، لكن المشكلة أكبر بكثير من مجرد طرد عناصر داعش وإعادة قوانين الدولة العراقية الى المدارس والمؤسسات الحكومية: «التنظيم أشعل حروباً بين المكونات المختلفة ومارس القتل في شكل غير مسبوق حتى عند أكثر الجماعات الاسلامية تطرفاً، واستخدمه كسلاح للترهيب والتمدد والاستمرار، وورط معه عشرات الآلاف من المتعاونين، بينهم آلاف الأطفال». «علينا توقع مئات من عمليات الانتقام الدموية في دولة بلا مؤسساتها قوية، ينتشر فيها السلاح. علينا أن لا نخدع أنفسنا بتحقيق استقرار حقيقي بعد التحرير اذا لم ترافقه برامج متكاملة لمواجهة العُقد السرطانية التي زرعها التنظيم في كل موضع بما فيه عقول الأطفال». * أنجز التحقيق بدعم من شبكة «نيريج» للصحافة الاستقصائية وبإشراف كمي ملحم