حين أحرز الفريق الألمانيّ نصره الموندياليّ الكبير على الفريق الأرجنتينيّ، وقبل هزيمته أمام أسبانيا، ظهرت في بيروت أعلام نازيّة (صلبان معقوفة) تحملها سيّارات محتفلة، كما ظهر شبّان يحتفلون على طريقتهم برفعهم تحيّة «يحيا هتلر». ولم يتردّد وزير سابق معروف بمواقفه الفظّة في «الوطنيّة» و»القوميّة»، وبقوّة «علاقاته الاستراتيجيّة» مع «قوى الصمود والممانعة»، في أن يعلن، من على شاشة التلفزيون، تأييده «السياسيّ» لألمانيا لأنّها «أحرقت اليهود في أفران الغاز». ومن قبل كانت الطريقة المألوفة تقوم على إنكار حصول المحرقة وافتراض أنّها «كذبة يهوديّة» أو «صهيونيّة»، إلاّ أنّ الوزير السابق نقل المسألة إلى إقرار صريح يُفتَرض أنّ العرب يؤيّدونه ويباركونه!. ما حصل في بيروت ربّما حصل مثله في عواصم عربيّة أخرى. وهو، في الحالات كافّة، كان أكثر من كاف كي تنقل السفارة الألمانيّة في لبنان احتجاجها إلى وزارة الخارجيّة اللبنانيّة. ذاك أنّ الألمان لم يكفّوا منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية عن تنظيف ذواتهم وضمائرهم من ماضي الارتكاب النازيّ. وهذا ما فعلوه على الأصعدة جميعاً من برامج التعليم إلى الإنتاج الثقافيّ إلى إعادة تأهيل المجتمع عموماً. هكذا بات النازيّون لا يمثّلون في البلد المذكور أكثر من أقليّة مجهريّة وتافهة يخجل بها كلّ ألمانيّ وألمانيّة يحترمان نفسيهما. ولا نبالغ حين نقول إنّ ذاك الماضي الهتلريّ الذي يتعلّق به بعض العرب ويدافعون عنه هو أكثر ما يدفع ألمانيا إلى محاباة إسرائيل، تكفيراً منها عن شعورها الكبير بالذنب الذي يثير إعجاب الوزير اللبنانيّ السابق. والحال أنّ هذه الصورة الخاطئة والمضلّلة عن ألمانيا، بوصفها وريثة النازيّة والمحرقة، تملك شعبيّة واسعة في العالم العربيّ، شعبيّةً لا يخفّف منها البتّة خجل الألمان بها والمسافة التي أقاموها ويقيمونها عنها. فنحن، في هذا، لا نفعل غير اختراع ألمانيا وهميّة غصباً عن الألمان أنفسهم!. لقد أصدر إدوارد سعيد في 1979 كتابه الشهير «الاستشراق» الذي بناه على فرضيّة الاختراع الغربيّ لشرق مُتوهّم ومتخيّل وفانتازميّ. ولم يخفّف من الحماسة لذاك الكتاب صدوره في العام نفسه لقيام الثورة الخمينيّة في إيران: آنذاك كان ملايين الإيرانيّين يستعرضون بملء إرادتهم تعلّقهم ب»التنميط» الذي اعتبره سعيد افتئاتاً من المستشرقين على «الشرق». فقد احتشد اللون الأسود والأفكار الظلاميّة السوداء في هيئة ظافرة لن يستطيع أسوأ المستشرقين أن يضيفوا كلمةً واحدة في وصفها. هكذا، وبحجّة فضح الاستشراق، رُجمت عشرات النصوص الإبداعيّة والمعرفيّة التي كانت معرفتنا لتخسر الكثير من دونها. وتولّت تيّارات فكريّة مماثلة ظهرت في الغرب تقصير الطريق إلى الجهل كي لا تُحمَل المعرفة على أيّ محمل عنصريّ. كذلك بات أصغر خطأ معلوماتيّ ترتكبه وسيلة إعلاميّة غربيّة مادّة دسمة لدينا للتشكيك بمعارف «الغرب»، فضلاً عن نواياه... وهي شريرة طبعاً. أمّا الأفكار السائدة لدينا عن ألمانيا، وعن «انهيار الأخلاق في الغرب» و»فتك الإيدز بالغربيّين» وسائر الخرافات الشعبيّة والغيبيّة الواسعة الشيوع، فكلّها لا تستدعي أكثر من لوم بسيط يوجّهه الأعرف بيننا للحلفاء في مقارعة الإمبرياليّة. ذاك أنّ هؤلاء، في آخر الأمر، ضحايا، والضحايا يحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم. لقد تأدّى عن نقد «الاستشراق» إعدام عقول كثيرة ونتاجات عقليّة أكثر، فيما المطلوب، كان ولا يزال، نقد الاستغراب، أي هذا الكمّ من الجهل والغباء والبله في فهم الغرب!