كثيرون لا يدركون أن العنصرية يمكن ان تنزلق بكل سهولة عبر تعبيرات وإشارات وانطباعات في حياتهم تجاه اللون الأسود، كما لا يدركون أنها بالقطع في هذه الحالة تستوي علامة واضحة على ذلك العار المقيم: التخلف. ذلك أن عدم الانتباه الواعي والبديهي لقيمة إنسانية الإنسان في كونها حقيقة عابرة للألوان والأعراق والأديان والمذاهب، هو الوجه الآخر لعملة التخلف. والحال أن من مفارقات التخلف الساطعة في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً: أنه لا يعبر عن عدم الإحساس بالعنصرية في كونها عاراً فحسب، بل يقلب منطقها أيضاً عبر تعبيرات تجد في السلوك العنصري - لفظاً وفعلاً - كما لو كان تصرفاً عفوياً وعادياً. أي أن العار هنا يستوي سلوكاً عفوياً محبباً ومغرياً عبر الكلمات والأمثال والمواقف العنصرية التي تتماهى مع مزاج المجتمع. إن صعوبة القدرة على الفرز بين الموقف الواعي من عنصرية اللون، وبين التسريبات اللفظية التي تتسلل عبر اللاوعي حتى لدى بعض المثقفين هي نفسها درجة الحضيض التي تستوي مؤشراً على التخلف. ففي المجتمعات المتقدمة يكون الإحساس بالندم الممض والخزي والعار هو وحده ثمن التعبير بعنصرية اللون في ضمير الفرد الذي يتفوه بها بحسب حالة من الوعي الإنساني تخنق تلك التعبيرات العنصرية في الفضاء العام، فضلاً عن العقاب القانوني الصارم الفعال والموازي لقبح العنصرية. إن عادية العنصرية ضد السود في المجتمعات العربية (والسود هنا ربما كانوا شعباً أصبحت ثقافته عربية بقدر تاريخي غلاب؛ قدر لم يجعل من تركيا مثلاً ذات ثقافة عربية على رغم 400 عام من الخلافة) لا تضعنا أمام تحيز عنصري فحسب، بل هي ستتجلى كوجه آخر أيضاً للاستخفاف بقيمة الإنسان؛ وجه يجد تعبيراته الأخرى في منطق التخلف الحاكم لعلاقات ثنائية عدة تخترق مجتمعات هذه المنطقة ضمن علاقة القوة والضعف: الذكر والأنثى، الأكثرية والأقلية، الملل والنحل. صحيح أن الانحياز إلى الشبيه ميل غريزي، لكنه في المقلب الآخر طبيعة جوهرانية معبرة عن روح القطيع. ذلك أن الروح الإنسانية الواعية تنتبه الى المعنى الإنساني في الآخر الأقلوي المختلف في اللون والمذهب والدين لتغتني من ذلك الاختلاف. ولهذا، فإن ما يتوهمه البعض ويجعل منه حواجز إسمنتية في العلاقات الإنسانية بين البيض والسود كعلاقة الزواج مثلاً، لا يعبر عن فعل التخلف اللاواعي فحسب، بل يكشف عن محدودية الأفق وغياب قيمة المعنى في العلاقات الإنسانية لتلك المجتمعات، فما يراه هؤلاء مستحيلاً حدث ويحدث باستمرار في المجتمعات المتقدمة ولأسباب إنسانية جميلة؛ أسباب منها الوعي والحب والصداقة والاحترام وغير ذلك من القيم الإنسانية. نسوق هذا الكلام كمقدمة على ما جرى لبعض السودانيين والأفارقة في بيروت بحسب ما ذكرت صحف لبنانية؛ حين داهمت فرقة من قوى الأمن الداخلي اللبناني حفلاًَ خيرياً أقامه سودانيون في بيروت من أجل علاج طفل سوداني مصاب بالسرطان. تحول الحفل فجأة إلى ساحة للإذلال والضرب والتعيير باللون بعبارات عنصرية طافحة صاحبها ضرب بأعقاب البنادق واستخدام عنيف للقوة. وبحسب صحيفة «السفير»، فإن المداهمة «تمّت بطريقة تتنافى مع أخلاق جهاز أمني محلّي في بلد ديموقراطي، إذ اقتحم عناصر الأمن العام الصالة وراحوا ينهالون بالضرب المبرح على كل المشاركين، موجهين إليهم سيلاً من الشتائم، قبل أن يقتادوهم إلى نظارة الأمن العام الشهيرة». أما في صحيفة «الأخبار» اللبنانية، فنقرأ هذا الكلام على لسان أحد المواطنين السودانيين: «قلت له إن يديّ تؤلمانني من ضغط الأصفاد عليهما، فأرجوك أرخها قليلاً، غير أنه زاد من ضغطها على معصمي وقال لي: مبسوط هيك يا أسود يا فحمة!؟». تكشف هذه الحادثة التي توالت ردود الفعل عليها في ما بعد من طرف السودانيين، لا سيما في المواقع الالكترونية النشطة، وكذلك ردود الفعل التي جاءت متأخرة من بعض الأطراف اللبنانية كالنائب وليد جنبلاط، وبيان «حزب الله»، وبعض الأطراف الرسمية اللبنانية؛ كل تلك الحيثيات تكشف عن تلك القشور التي تهرّأت في الكثير من الأقنعة والتي يتم تسويقها كأوهام مؤطرة لأساطير نسجها كل شعب عربي حول نفسه وسوّقها للآخرين. إذ كيف لا يكون بديهياً أن هذا التصرف لا يليق برجل أمن واحد في (بلد ديموقراطي)، فضلاً عن فرقة كاملة! سنجد أنفسنا هنا أمام وهم لهوية كاذبة، فالديموقراطية في لبنان لا تشتغل بحسب بداهاتها، وأهمها احترام إنسانية الإنسان، بل تشتغل بحسب ترسيمة لتمثيل يستهلك قناعاً استعراضياً، فهو هنا تماماً كالغرق في سلوكات الطائفية مع ادعاء الحداثة؛ بل إن ذلك السلوك هو النقطة الأبعد والأكثر ضلالاً عن مطلق الديموقراطية والحداثة. وزيادة في ذلك التناقض، يصرح قائد قوى الأمن اللبناني وفيق جزيني: «في كل الأحوال، نحن لا نرضى بحصول تجاوزات من أفراد الأمن العام، وإذا أظهر التحقيق الداخلي الذي بدأناه وجود تصرفات مسيئة، فإن الفاعلين سيعاقبون، لكن لن نعلن ذلك». كيف لا يعلَن عن نتائج تحقيق حول تجاوزات أصبحت من قضايا الرأي العام في بلد ديموقراطي؟ بل إن بعض أفراد تلك القوة لم يكونوا يعرفون أن السودانيين يتحدثون العربية أصلاً، حيث تورد الصحيفة ذاتها في تقريرها قول أحد الشهود السودانيين: «سألنا أحد أفراد الأمن العام عن المكان الذي تعلمنا فيه اللغة العربية، فقلنا له نحن عرب ومن السودان، فظنّ أننا نسخر منه فانهال علينا مجدداً بالضرب». هكذا في مثل هذا الواقع الصلب والعاري تتكشف خامات شعبوية عن قشور وجهل واستغناء وتغييب حتى بعض التوصيفات المستهلكة في الوعي العام للعرب والمختزلة في درس الجغرافيا الذي يعرفونه عن السودان كونه «سلة غذاء الوطن العربي» لتحضر اهتمامات محلية منكفئة ومستقلة تماماً عن أي معنى خارج حدودها في ذلك الوعي بسبب خراب وتفسخ كبيرين في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً. وفي جو كهذا، ظهرت علامات أخرى لتزيد من الخواء عبر ألفاظ لا تكاد تجد لها مصرفاً في صلب القضية المتصلة بحقوق الإنسان واحترام كرامته؛ فذلك الشعر الذي تغنى به السفير اللبناني في الخرطوم متغزلاً بالسواد ومتوهماً أنه بذلك يهدّئ النفوس الغاضبة لدى شريحة من السودانيين لم يكن إلا الوجه الآخر للاستخفاف أو ما يسمى في البلاغة العربية القديمة «المدح بما يشبه الذم». فقد قال رداً على سؤال أحد الصحافيين السودانيين: «أتشرف بأن أكون أسود، لأن الكعبة الشريفة سوداء والحجر الأسود لونه أسود وحبة البركة سوداء، ويزين شعر الرأس عند الرجل عندما يبلغ من العمر عتياً بأن يصبغه باللون الأسود». وهي بلاغة استدعت بلاغة أخرى من نوع تاريخي عند السودانيين الذين تصدوا لتلك الحادثة بمذكرة كتبها أعضاء موقع «سودانيز أون لاين»، وهو أكبر موقع إلكتروني يتصفحه السودانيون في العالم. فقد جيء في تلك المذكرة الموجهة إلى رئيس جمهورية لبنان ورئيس وزرائه التي تم تسليمها الى السفير اللبناني، بشواهد من التوراة والتاريخ عن دور السودان في عصر الملك الفرعوني/ السوداني تراهقا وتحريره سورية ولبنان من الاحتلال، حيث جاء في تلك المذكرة العتيدة: «فأرض لبنان ظلت عزيزة علينا منذ مهد التاريخ منذ أن قام الملك السوداني تراهقا وجنوده، أصحاب الوجوه السوداء، بتحرير شعوب لبنان وفلسطين من استعباد جيوش الغزاة. وتلك واقعة خلّدتها الكتب المقدسة مثلما تشهد عليها آثارنا التي ما زالت باقية إلى اليوم في أرض الشام ولبنان وفلسطين. في تلك الواقعة، لم يبق الملك السوداني مستعمراً، وقد أوتي من القوة والطَّول، بل كرّ عائداً بجنوده إلى حيث عرشه في السودان». وعلى رغم أن الخالق وحده يعلم مَنْ من اللبنانيين الأحياء سيعرف هذه الوقائع التوراتية «المقدسة»، إلا أنها تصلح من وجهة نظر هؤلاء كذكرى لمواجهة زجل السفير اللبناني بزجل أحفوري غابر. كل هذا يكشف تماماً عن ذلك الذهول الذي يجرى في الواقع وما ينتجه من انعزالية وانكفاء لدى شعوب ألهاها اشتغالها بنفسها وبالتفسخ الذي أصاب نسيجها عن غيرها، بحيث أصبحت تنظر إلى الوقائع والمشكلات بمنظار الخيال والتاريخ والبلاغة بعيداً من الوعي والواقع والحقوق؛ تلك الحقوق التي كان يمكن أن تدرج أي بلد في العالم في قمة التحضر بمجرد احترامه إنسانية الإنسان في سلوك مواطنيه. ذات مرة اشتكى الطيب صالح من أن المخيلة العربية عن السودان «مخيلة فقيرة»، والحق أن السودان الذي كان ينعته المصريون بجنوبالوادي، فيما نعته أمير الشعراء أحمد شوقي بما يشبه الحديقة الخلفية لأرض الكنانة حين قال: «فمصر الرياض وسودانها عيون الرياض وخلجانها»، كان باستمرار مصدراً لغموض يعجز عنه التوصيف العربي... ابتداء من السمرة البرزخية التي تشف عن السودانيين، وهي سمرة سوداء تختلف عن ألوان العرب والكرد والبربر والقبط وكل شعوب المنطقة العربية، ومروراً بتكوينه المتأخر عن الحواضر العربية التاريخية، وظهور هذا التكوين في بعض مراحله الحديثة معرّفاً كملحق لمملكة الملك فاروق «ملك مصر والسودان»، كما درجت لازمة مصرية شعبوية، وانتهاء بمساحته التي تختزل تعريفاً جغرافياً عنه في الذاكرة العربية باعتباره «سلة غذاء الوطن العربي»، كما درس الكثيرون من العرب في درس الجغرافيا. وهكذا أيضاً ربما صدقت قولة الروائي اللبناني حسن داوود ذات مرة حين تساءل: «كيف أن السودان يستفيد من مواجهاته ليعرّفنا بنفسه؟». فهذه المرة كان التعريف بالسودانيين في قلب بيروت، ولنتذكر هنا أيضاً مذبحة السودانيين في القاهرة التي راح ضحيتها 27 سودانياً على يد قوى الأمن المصري عندما اعتصموا في حديقة مصطفى محمود في العام 2005، ضمن سلسلة متلاحقة من الكوارث السياسية لهذا البلد العربي الملتبس والذي تفيض مآسيه بسيولة على شاشات التلفزة العربية عبر صور الحرب الأهلية في الجنوب، ومأساة دارفور. وهي بحق التفاتات عنيفة للأشقاء العرب تستدعي أسئلة مؤجلة باستمرار عن السودان. وعادة عندما تعاد تلك الأسئلة المؤجلة عن السودان تختفي غالبية العلامات الافتراضية في خصوص سوية المجال العام لعلاقات الواقع العربي... وهي بالقطع، أي هذه العلامات، ستدخل بنا في علل مزمنة تتكشف عن قناع العجز المزمن الذي هو صناعة عربية بامتياز؛ فالسوداني الذي ارتبط ب «عثمان» البوّاب في أفلام الأبيض والأسود المصرية (في الحقيقة كان هذا نوبياً، أي مصرياً/ سودانياً) ربما كان صارف اللون هو الذي طوح به في خانة السودان، مع أن النوبة هم سكان جنوب مصر وفراعنتها الأوائل كما هم سكان شمال السودان. وهكذا حين تغيب تلك السوية تتداعى تصنيفات مريحة يمكن تأويلها بسهولة. * كاتب سوداني.