تعيش آلاف الأسر المصرية أسيرة شهادة الثانوية العامة التي يتحدد على أساسها مصير ومستقبل غالبية المصريين، فليس مهماً أن يتحلى التلميذ بمهارات بحثية في أي مجال، وليس ضرورياً أن تُنمي أي ميول ابتكارية لديه، ولا من داعٍ للبحث في قدراته الذاتية، فالمهم أن يجمع أكبر عدد ممكن من الدرجات تؤهله للمراحل المتقدمة في «مكتب التنسيق» كي يلتحق بإحدى «كليات القمة»، لنيل شهادة بكالوريوس قيمة على الأرجح سيفاخر بتعليقها على أبرز حائط في منزله، فلا علم كسب ولا مهارات اكتسب. تلك المعادلة هي الحاكمة للعملية التعليمية في مصر منذ عقود، وارتضتها الأطراف كلها، على أن تناور وفقاً لقواعدها، فالحكومة تشكو مُر الشكوى من عدم تأهيل الخريجين لسوق العمل، في محاولة للتنصل من المسؤولية عن ارتفاع معدلات البطالة، وكأن هؤلاء الخريجين هم من يرسمون السياسة التعليمية للدولة. والأسر من جانبها لم يعد يهمها إلا «مجموع الثانوية العامة»، فتعلن حال الطوارئ وتتقوقع على ذاتها وتُنفق آلاف الجنيهات على الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية، وصولاً إلى الأمل المحفور في الذهن منذ سنوات، وهو الالتحاق بأي من «كليات القمة» التي باتت في الحقيقة لا علاقة لها بأي قمة. المتغير في هذه المعادلة الراسخة منذ عقود هو تسريب امتحانات الثانوية العامة. هذا المتغير يكاد يضرب تلك المعادلة في الصميم، إذ فجرت عملية التسريب غضب آلاف الأسر التي قهرتها وأفقرتها الثانوية العامة على مدار عام، لتفاجأ قبل الامتحان بساعات بتسريب أسئلته على مواقع التواصل الاجتماعي، مُرفقة بالإجابات النموذجية الرسمية. تلك التسريبات تكررت في سنوات مضت وأثارت استنفاراً في وزارتي التربية والتعليم والداخلية. وكل عام تتحدث الحكومة عن ضوابط جديدة تحول دون حصول أي تسريب للامتحانات، ليفاجأ المصريون بالتسريب الذي تتأكد صحته مع وصول ورقة الأسئلة إلى أيدي التلاميذ، وغالباً ما تتطابق مع الورقة المُسربة. حدث هذا الأمر في أول أيام امتحانات الثانوية العامة في مادتي الدين واللغة العربية، وألغت وزراة التربية والتعليم امتحان التربية الدينية، للمسلمين والأقباط، علماً أن المادة المُسربة هي امتحان التربية الدينية الإسلامية، لكن يبدو أن الوزارة اتخذت قراراها إعمالاً لمبدأ المساواة. واشترط مدير الصفحة القائمة على تسريب الامتحانات على موقع «فايسبوك» تطوير منظومة التعليم لإيقاف تلك المهزلة التي تُغضب آلاف الأسر، خصوصاً المُجدة منها. وما إن انتشر نبأ التسريب، إلا وانتفض البرلمان وطالب نواب فيه بإقالة وزير التربية والتعليم وقيادات الوزراة لعدم قدرتهم على إحكام السيطرة على منظومة الامتحانات، وفي برامج «التوك شو»، شكا أولياء أمور طلاب من «مساواة من اجتهدوا طوال العام بالغشاشين». وطلبوا إشراف القوات المسلحة على امتحانات الثانوية العامة. وخرجت وزارة الداخلية بعد ساعات من التسريب ببيان مُرفق بصورة شابين يحملان أجهزة كومبيوتر قالت إنهما المسؤولان عن عملية التسريب. وعزت سرعة ضبط المتهمين إلى «التقنيات الحديثة من فحص فني وتتبع البصمة الإلكترونية لضبط المتورطين في إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لتسريب أسئلة الامتحانات وإجاباتها». لكن وزارة الداخلية لم تُجب عن السؤال الأبرز، وهو كيف حصل شابان يدرسان في الجامعة على أسئلة الامتحانات، وما إذا كانت الشرطة فعّلت «تقنياتها الحديثة» لتتبع الدائرة الصغيرة من المسؤولين الكبار والصغار الذين يتسنى لهم الوصول إلى ورقة أسئلة الامتحانات المختلفة، لتحديد مصدر هذا التسريب. يبدو أن هذا الأمر محل جدل، فالنيابة العامة التي أمرت بحبس 12 مسؤولاً في قطاعات وإدارات مختلفة في وزارة التربية والتعليم لمدة 15 يوماً احتياطياً على ذمة تحقيقات تسريب الامتحانات وأسندت إليهم تهم «الإضرار العمد بمصالح وأموال جهة عملهم»، لم تحصل بعد على تفاصيل كيفية حدوث تلك التسريبات، إذ طلبت من أجهزة الأمن «سرعة الوقوف على تفاصيل عملية التسريب وكيف حدثت على وجه الدقة، وموافاة النيابة بنتائج تحرياتها». غضبة البرلمان والشرطة والنيابة لتحديد هوية القائمين على عملية التسريب، هدأت من روع أسر الطلاب، ومنحتها أملاً في إمكان عدم تكرار العملية في الامتحانات المقبلة، ليبقى الأمر محل ترقب ومتابعة. لكن هذا الأمل بدا أقل في نفوس كل من نما إلى علمه الأخبار التي نشرتها صحف محلية عن موافقة وزير التربية والتعليم الهلالي الشربيني على طلبات تقدم بها نواب في البرلمان وقيادات أمنية وقضائية في محافظة أسيوطجنوبالقاهرة، لنقل أبنائهم من لجان مدارسهم الأصلية لتأدية امتحانات الثانوية العامة في لجنة مدرسة البداري النائية في المحافظة نفسها، وهي اللجنة التي اشتهرت على مدار الأعوام الماضية بانتشار حالات الغش الجماعي فيها!