من قرأ شاعرة عربية تكتب بالفرنسية تدعى آية شدّادي؟ أطرح هذا السؤال لعدم عثوري على أي مقال أو رابط أو معلومة عنها على شبكة الإنترت، باستثناء أسطر معدودة نشرتها دار «غاليمار» الباريسية حديثاً على موقعها بمناسبة إصدارها ديواناً لهذه الشاعرة بعنوان «تونس بحرية». أسطر، بدلاً من أن تشبع فضول القارئ، تشعل فيه رغبةً شديدة في معرفة المزيد عنها. في هذه الأسطر، يتّضح أن شدّادي وُلدت من أب مغربي وأم يابانية في إحدى ضواحي باريس عام 1978، وتوفيت في مطلع 2015، قبل أن تبلغ عامها السابع والثلاثين، تاركةً خلفها مجموعتين شعريتين ورواية غير منجَزة. يتّضح أيضاً أن ديوان «تونس بحرية» جمعت شدّادي قصائده بنفسها بضعة أشهر قبل وفاتها، باستثناء ستة نصوص أضافها الناشر إليه، وأن هذه القصائد نتاج السنوات الثلاث الأخيرة من حياتها، وتتناول في بعضها تجربتها في مدينة المرسى التونسية حيث مارست مهنة التعليم خلال «ثورة الياسمين». قدرٌ مأسوي إذاً، خصوصاً حين نعرف أن الرحيل المبكر للشاعرة عن هذه الدنيا جاء بعد معاناة طويلة من مرض عضّال. ولا شك في أن هذا الأمر لعب دوراً في إثارة اهتمام مواطنَيها الشاعرين عبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون بديوانها الأخير. اهتمام أثمر نصّين، الأول كتبه اللعبي كمقدمة لهذا العمل، والآخر كتبه بن جلون على شكل رسالة مفتوحة لها. أول ما يلفت انتباه قارئ هذا الديوان هو أنعدام أي سوداوية أو تشاؤم في نصوصه، وذلك على رغم كتابة شدّادي لهذه النصوص خلال مرحلة مصارعتها مرضها وإدراكها النتيجة المحتمة لهذه المعركة. بالعكس، تبدو صفحات الديوان مشبعة بالنور والأمل والرقة تجاه حياةٍ لم يتبق منها سوى أيامٍ معدودة. ولعل هذا بالتحديد ما يفسّر حدة نظر الشاعرة فيه والتهامها كل ما كان يقع تحت عينيها وتحويله موضوعاً أو مادة شعرية. بعبارةٍ أخرى، سعت شدّادي إلى تعزيم ألمها وخداع مرضها بواسطة الكتابة ففتحت إلى أقصى حد «صمّامات الطاقة» داخلها للاحتفال بالعالم والإشادة بجماله وغناه، طالماً أن ذلك ما زال ممكناً. وفي هذا السياق، صقلت لغةً شعرية مذهلة في حيويتها، تتراقص كلماتها الملوّنة والعذبة بفرح طفولي، كما لو أنها شُحِذت على مشارف فجر هذا العالم وليس غروبه. وهذا لا يعني طبعاً أننا لا نستشعر في بعض الصور سير الشاعرة على حافة هوة، أو شبح الموت الذي كان يحوم حولها ويقترب تدريجياً منها. فمن حين إلى آخر، «تظلل العتمة أوراق الشجر»، تظهر «خدوشٌ على صفحة السماء»، أو «تتوارى النجوم فجأةً». لكن شدّادي ترفض حتى النهاية الاستسلام لمنطق الفناء المتربّص بها وتفعل كل ما في وسعها كي لا تُفلت خيط الحياة من يدها. وبالتالي، نادرة في نصوصها لحظات الضعف أمام المرض والموت، وحين تحلّ مثل هذه اللحظات نجدها تعثر دائماً على حيلة لمواجهتها وتجاوزها، كما في النص الذي تتخيّل نفسها تحت جلد فتاةٍ آخرى مريضة يحاول والدها مؤاساتها: «المرض لا شيء/ لا وجود له / هل نسيتِ البارئ؟/ قولي: «يا رّبي»، قولي: «الله»/ لا تبكي (...)». حول تجربة شدّادي، يقول اللعبي في مقدمته: «يأتي اختفاء الشاعرة في ربيع عمرها ليختم تجربةً مفتوحة على كل الممكنات، ورشةً حيّة للغة، خيالاً مضيافاً في شكل خاص، وحساسيةً فنّية يتحاور الشعر فيها طبيعياً مع الموسيقى والرسم والهندسة، ولا تكتفي العين بالتقاط جوهر الجمال في كل شيء، بل تصير شاهداً على مِحَن البشر وبؤسهم. ولا ننسى في هذه التجربة تفتُّح الحب في حالات نعمته وتمزّقاته». ويضيف: «مفارقة هذا الكتاب الذي تتحضّرون لقراءته هي في عرضه كلمات الشاعرة الأولى والأخيرة في آن. ولعل الطاقة التي تشعّ منه تنبع من هنا. أكثر من كتاب، ما في أيديكم هو رسالةٌ حارقة لحياةٍ في حالة حرب مع الزوال، رهانٌ على القصيدة المدعوة إلى الاضطلاع بدورها، دور الكاهنة العذراء لذاكرة البشر (...)». أما بن جلون، فكتب في رسالته لها: «غريبٌ كم يتغيّر لون الكلمات وثقلها حين يقترب الموت ثم يعبرها. كلمات غضّنتها حياةٌ عاكسها القدر. لم ينجح الغياب في محوها، بالعكس. إنها هنا، حيّة، حارقة أحياناً، مغيظة وقاسية. (...) بما أنك أعلنتِ أن «أبداً ليست كلمةً من الواقع»، تفوّق الشعر على كل شيء، على الحياة ثم على الموت. ومثل إشارة أخيرة من الشمس، تركتِ لنا قصائد كما نترك ثماراً تتحجّر على الطاولة حتى تشبه منحوتات تقلّد الحياة، الحياة الحقيقية بصخبها، وموسيقاها، وأحلامها، وكل الرقة التي يطالب بها قلبٌ هش».