المسلمون قيل لهم «ويل لكل همزة لمزة». والمسيحيون نصحوا «في مجالس المستهزئين لا تجلس». ولا بد من أن عند اليهود شيئاً مماثلاً إلاّ أنني لا أعرفه. في كل مرة أهاذر وأقع أسترجع ما سبق وأقول إن هذه آخر مرة، ثم أنسى وأعود، وأحياناً مكرراً المزاج نفسه الذي ندمت عليه. ولعل أقدم ما «ارتكبت» هو أن يقدم لي رجل أعرفه زوجته للمرة الأولى وأقول له: «أنت كل أسبوع تقدم لي امرأة تزعم أنها زوجتك». وعادة ما ينتهي تعليقي ببسمة عابرة، إلا أنه حدث أيضاً ان امرأة أمسكت بتلابيب زوجها وهي تسأله عن المرأة الأخرى، وأنا أحاول أن أشرح وأعتذر. لا يستطيع الإنسان أن يقضي العمر عابساً، كأنه زوج أردني، ولكن تجربتي تقول إن الصمت أسلم من الهذر، وقد بدأت بنفسي على سبيل الموضوعية، وأكمل بغيري. كنا في مناسبة اجتماعية حول مائدة عشاء ضمت 12 رجلاً وامرأة والكل أصدقاء، وهتف رجل بآخر عبر الطاولة: لا تبدأ تشرب وتسكر وتتخانق مع الخدم ونَنْتهي عند الشرطة ونطرد من الحفلة. وضحك الرجل الثاني واتهم الأول بأنه هو الذي سكر. واعتقدت ان الأمر انتهى عند هذا الحد، فلم يكن على الطاولة أي خمر، ولكن سيدة جالسة بقربي همست في أذني وسألت أين وقع «الحادث»، ومن كان موجوداً غيرنا، ومتى وكيف ومن حضره. وحاولت أن أقول لها ان الأمر مجرد هذر سخيف ونحن جميعاً، بمن فينا زوجها، لا نشرب وهي تعرف ذلك، إلا أنها أصرت على أنني أكتم شيئاً. هذا الهذر سخيف إلاّ أنه أقل أذى من هذر آخر ينتهي فعلاً في مخفر الشرطة، ويتكرر بين حين وآخر، وراكب في طائرة يزعم انه يحمل قنبلة أو يختلف مع مضيفة فيهدد بنسف الطائرة، أو رمي الطيار بالرصاص. رجال الأمن لا يقبلون مثل هذا المزاح أبداً، ولا يستطيعون أن يهملوه كمجرد كلام، وقد قرأت عن حوادث من أميركا الى الشرق الأقصى مروراً بلندن، وعن طائرة خليجية عندما ألغيت الرحلة واعتقل ثلاثة ركاب هددوا طاقم الطائرة. أهل زغرتا يقولون: «اللي يسحب فرد (مسدس) بدّو يقوص»، والمشكلة ان لا مسدس أو قنبلة هناك وإنما جنون وقتي وأعصاب العالم كله مشدودة بسبب الإرهاب. على الأقل الهذر الاجتماعي لا ينتهي بسجل عدلي، وقد سمعت صديقاً يشكو لي من أنه قُدِّم الى امرأة وابنتها، وقال ممازحاً: مين البنت ومين أمها. وضحكت الأم وشكرته على أريحيته، إلاّ أن البنت بعد ذلك انتحت به زاوية من الصالون وعاتبته قائلة: هل أبدو فعلاً وعمري 60 سنة؟ ورفضت شرحه انه قال كلماته لأنه تصور أنها لا يمكن أن تؤخذ حرفياً. والغريب انني قلت مثل كلامه في مناسبة مماثلة إلاّ أن البنت لم تحملني على محمل الجد وكسبتُ الأم. الناس أجناس، وجنس الأنثى أكثر حساسية من جنس الذكر، وأقلّ استعداداً لممارسة الهذر أو تقبله. وقد رأيت صديقاً يقول لامرأة انها جلست على «كنبة» وليس في مقعد لأنها سمينة. ومع ان المرأة لم تكن سمينة أبداً فقد وقفت فزعة ونظرت حولها كأنها تبحث عن مرآة، ورأيتها بعد ذلك تسأل ان كان زاد وزنها. حديث الوزن مع النساء ممنوع قطعياً إلاّ إذا كان الرجل يريد أن يفتعل معركة، وأسوأ سؤال يمكن أن يوجه الى امرأة هو: أنت سمينة أو حامل؟ وردها عادة من نوع: حملك عزرائيل إن شاء الله. أقول لا تمزحوا مع النساء، والسلامة غنيمة، أما الرجال فكلنا يعرف أن الذي يلعب طاولة الزهر أو ورق الشدة يكسب لأنه «حرّيف» ويخسر لأن حظ غريمه مثل «بنات الهوى». وكنت إذا خسرت أتّهم اللاعبين الآخرين بأنهم تجار سلاح أو تجار رقيق أبيض (وأحياناً أصفر)، ثم توقفت بعد أن سألني رجل كان يتفرج على اللعب عن أي من أصدقائي تاجر سلاح وأيهم تاجر رقيق أبيض. ولم أسأله هل يريد أن يشاركهم المهنة هذه أو تلك. ومثل هذا أن أعاتب صديقاً لم يزرنا في لندن منذ زمن طويل وأقول له إنني سويت مشاكله مع البنوك، وأقنعت شرطة مكافحة الإرهاب بأنه قطع علاقته مع القاعدة. وأنا أتكلم أعتقد ان كلامي مستحيل التصديق ثم يسألني مستمع هامساً عن نوع مشاكل الصديق مع البنوك، ومتى أفلس، وعن علاقته مع القاعدة وهل اعتقل يوماً. لو كان ما قلت صحيحاً لكنت أنكرت أنني رأيت الرجل أو عرفته. لا بد من أن هناك حاجزاً غير مرئي بين أن يكون الإنسان «خفيفاً» سخيفاً، وبين أن يكون ثقيل الدم، يجلس صامتاً وقد «أعطى النعمة استحقاقها» كما يقولون في لبنان. ولكن بما ان الحاجز غير مرئي فكلنا يتجاوزه أحياناً ويندم من دون أن يستطيع أن يعتذر بباقة ورد لأن ارسالها يعني اعترافاً بالذنب. [email protected]