في الأيام الأولى من هذا الأسبوع شهدت مدينة تورونتو الكندية اجتماع مجموعة العشرين، وجاء عقد القمة بعد قمة الثمانية الكبار الذين حذروا في ختامها من أن الانتعاش الاقتصادي العالمي لا يزال هشاً وأن الأزمة الاقتصادية العالمية أعاقت بعض الأهداف التنموية في هذه الألفية، وهاتان القمتان جاءتا في ظل حال من عدم اليقين التي يعيشها العالم بسبب ركود اقتصادي عظيم مصحوب بتضخم غير مسبوق، وزيادة عدد الفقراء والعاطلين، وارتفاع حاد في أسعار السلع الغذائية... الخ. وعلى الجانب الآخر، هناك قضايا وملفات معقدة وساخنة وتهدد بالانفجار مثل الملف النووي الإيراني، وكوريا الشمالية والحال البائسة في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها ليصبح هذا القرن أكثر تعقيداً من القرن الذي سبقه. قمة العشرين إذاً عقدت وسط أجواء ملبدة بالغيوم الكثيفة والكئيبة التي تطوق الاقتصاد العالمي (المعولم) الذي كان ولا يزال حبيس الأزمة المالية العالمية التي بدأت شرارتها الأولى على أرض بلاد العم سام لتشمل كل أرجاء الكرة الأرضية حتى اصبحت فريدة في حجمها وتنوعها وسرعة انتشارها ومخاطرها وتفوقت بامتياز على كساد عام 1929 بفضل ضخامة الاقتصاد العالمي اليوم وقوة ماكينة الاعلام مقارنة باعلام كساد الثلاثينات من القرن الماضي. وإذا كانت قمة مجموعة العشرين التي عقدت في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 وقمة لندن التي عقدت في 2 نيسان (أبريل) 2009 وقمة بيتسبرغ بتاريخ 25 أيلول (سبتمبر) 2009 جاء عقادها والعالم لا يزال يشهد الآثار المدمرة لأضخم زلزال ضرب الاقتصاد العالمي بادئاً بتحطيم مفاصل النظام المصرفي والمالي والعقاري في الولاياتالمتحدة، وانتشر الداء العضال من هناك ليضرب بعنف اقتصادات الدول واحدة تلو الأخرى باعتبار أن الاقتصاد الأميركي هو أكبر اقتصاد، اذ يمثل حوالى 27 في المئة من إجمالي الناتج العالمي و20 في المئة بالأسعار المعدلة، فإننا يجب ان نضع في الحسبان ان اقتصاداتنا العربية لها ارتباط مباشر بذلك الاقتصاد، فمعظم الاستثمارات العربية ولا سيما الصناديق السيادية مرتبطة بالاقتصاد الغربي عموماً والأميركي على وجه الخصوص، فجاءت الضربة قاسية على تلك الاستثمارات فبلغت خسائرها أرقاماً فلكية قدرت بأكثر من 450 بليون دولار، وهذا نتاج عدم التخطيط المدروس لحاضر تلك الاستثمارات ومستقبلها. جاءت مجموعة العشرين في كندا امتداداً للقمم الثلاث السابقة، والاقتصاد العالمي لا يزال يحبو نحو التعافي، والأسواق المالية لا تزال تسجل انحداراً تلو الانحدار، والنظام المصرفي لم يسجل ومعه الاقتصاد العالمي سوى تحسن خجول، بل إن المصارف قلبت ظهر المجن للراغبين في قروض لدفع عجلة مشاريعهم التي توقفت. ومما زاد الطين بلة أن دولاً انهار اقتصادها بالكامل كما حدث لأيسلندا التي فاقت ديونها 125 في المئة من قيمة ناتجها المحلي الاجمالي لتشهد أسوأ مرحلة في تاريخها الاقتصادي، وقد يمتد الداء العضال إلى دول أوروبية أخرى واليابان قد تلحق بها حيث فاقت ديونها 200 في المئة من اجمالي ناتجها المحلي. والمحصلة أن القمة عقدت والاقتصاد العالمي لا يزال في خندق الدفاع عن النفس، خصوصاً الاقتصاد الأميركي واقتصادات دول الاتحاد الأوروبي التي تواجه تحديات جساماً تحتاج إلى علاج طويل الأمد بعدما عجزت المهدئات عن إصلاح حالها، بل وعلى ذمة بنك إنكلترا المركزي في تقريره الأخير، فإن عجز الموازنات العامة للدول الصناعية وديونها السيادية بلغا 14 تريليون دولار وهو ما دفع هذه الدول إلى نهج سياسة تقشف في إنفاقها للحيلولة دون سقوط اقتصاداتها في هاوية اللارجعة. وقد تمثلت تلك السياسات في خفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب على رغم احتجاج الولاياتالمتحدة التي ترى أن الاقتصاد العالمي منذ أن ضربه الزلزال العظيم مروراً بقمة واشنطن ثم لندن وبيتسبرغ وقمة العشرين الأخيرة يدرك الكارثة الاقتصادية التي حلت باقتصاد العالم بأسره ويدرك الخيارات والملفات المعقدة التي وضعتها القمة على جدول أعمالها، كما يدرك أهمية هذه المجموعة اقتصادياً وسياسياً فهي تسيطر على حوالى 90 في المئة من إجمالي التجارة العالمية وأكثر من 85 في المئة من حجم اقتصاد العالم، ومن هنا فكلمتها مسموعة تنصت إليها الدول الأخرى خصوصاً في المجال الاقتصادي. ومن البيان الختامي للقمة يتضح أنه ركز على استمرار جهود المؤتمرين التي بدأوها في قمتهم السابقة لدعم مسيرة الانتعاش الاقتصادي العالمي، إذ جاء في البيان الختامي «أن الأولوية هي لحماية الانتعاش الاقتصادي وتعزيزه، إضافة إلى إرساء أسس نمو قوي ومستدام ومتوازن وتحسين الأنظمة المالية ضد الأخطار». فالمجموعة أكدت أهمية تعاونها من اجل دفع عجلة النمو الاقتصادي المستدام، لأن التعاون البنّاء من شأنه أن يخرج الاقتصاد العالمي من دائرة الكساد التي تردى فيها وهذه النية من الدول تشمل تحصيل القوانين التي تحكم الأمور المالية ضد الأخطار الجارفة وتطويرها كما ان المجموعة اتفقت في بيانها على مواصلة إجراءات تعزيز الموازنات التي تشجع النمو وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وإصلاح إدارة المؤسسات وتنمية أسواق المال والاستثمار في البنية (التحتية)، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف (تعهد اقتصادات الدول المتفرقة إعداد خطط للموازنات من شأنها خفض العجز بمقدار النصف على الأقل بحلول عام 2013 واستقرار نسب الدين العام أو تقليصها إزاء الناتج الداخلي بحلول 2016). لا شك في أن مجموعة العشرين في قمتها الاخيرة قررت الدفاع بشجاعة غير مسبوقة عن الاقتصاد العالمي والنظام المصرفي وأسواق المال واستعادة الثقة في إحراز النمو وتوفير فرص عمل جديدة لمئات الملايين من العاطلين والبلايين من فقراء العالم، والعمل على إصلاح النظام المالي لتعزيز حركة التجارة الدولية والاستثمار، ولذا فإن قمة لندن على سبيل المثال قررت حوالى 5 تريليونات دولار لدعم نمو الاقتصاد العالمي، وأكثر من 1.1 تريليون دولار لصندوق النقد الدولي، ومؤسسات دولية أخرى من أجل مساعدة الدول التي تضررت من أزمة الائتمان ومساعدة الدول الفقيرة كما قررت قمة لندن موارد ب 500 بليون دولار من تلك الأموال. إن مجموعة العشرين وعت الدروس والعبر التي خرجت من رحم الزلزال الاقتصادي العالمي وما أحدثه من كوارث اقتصادية ومالية ومصرفية، وعملت ولا تزال تعمل على تخفيف آثارها السلبية على الاقتصادات المتقدمة والناشئة، ومن أجل هذه الأهداف وغيرها قررت المجموعة عقد قمتها الخامسة في سيول عاصمة كوريا الجنوبية في تشرين الثاني (نوفمبر) من هذا العام، وما بين قمة تورونتو والقمة المقبلة أشهر قليلة حبلى بالتوقعات ويمكن المجموعة رصد تحرك نمو الاقتصاد العالمي والأسواق المالية ودوران عجلة الاستثمارات والمصارف. ومع هذا، فإن الواقع المعاش اليوم يبرز حقيقة واضحة للعيان تقول ان النمو الاقتصادي العالمي لا يزال يراوح مكانه، بل ان أوروبا تتعرض لعاصفة هوجاء تسببت بانهيار اقتصاد أحد أعضائها (اليونان) وتنذر بشر مستطير لدول أوروبية أخرى، وبذا يصبح انتعاش الاقتصاد الدولي وتحسين مساره وخفض حدة ركوده وتنشيط عمليات الإقراض وإصلاح مسيرة الأسواق المالية ودعم عجلة الاستثمار في حال من عدم اليقين، بل إن اقتصادات بعض الدول قد تتعرض لانتكاسات خطيرة في ظل احتمال تعرض الاقتصاد الدولي برمته لانتكاسات محتملة في مسيرته قد يمتد أثرها إلى اقتصادات العالم بأسره وفي مقدمها مجموعة العشرين، وهو ما يجعل التجارة العالمية وسوق النفط الدولية ومعظم الاقتصادات العربية المعتمد اقتصادها على إيرادات موازناتها من النفط في وضع قد لا تحسد عليه. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية [email protected]