في المشهد الأخير من فيلم «حار جاف صيفاً»، تنتقل الكاميرا بين عالمين، عالم شابة بسيطة متزوجة تحكي عن أسرارها الحميمة مع زوجها لصديقتها في التلفون، وعالم العجوز المريض الذي يجلس على الشرفة يستمع إلى عبدالوهاب وهو يُغني «لا مش أنا اللي أبكي»، كأنه يعاتب هذه الشابة على يوم مضى من أجمل أيام حياته. يحكي الفيلم الروائي القصير «حار جاف صيفاً»، من إخراج شريف البنداري وتأليف نورا الشيخ (عُرض قبل أيام للمرة الأولى في القاهرة ضمن فاعليات أسبوع أفلام معهد غوته)، عن «عم شوقي» الذي يلعب دوره محمد فريد، وهو عجوز مصاب بالسرطان سيلتقي ذات يوم هذه الشابة، بينما يقلّهما تاكسي واحد إلى قلب القاهرة. كان يريد هو أن يذهب إلى طبيبه الألماني في موعد طارئ، وكانت هي تريد أن تؤدي كل أغراضها قبل أن يُقام عرسها في الليل وتنتقل مع عريسها إلى طنطا. تلعب دور العروس ناهد السباعي، وهي تأخذ بيدها في هذا اليوم الطويل صديقتها دنيا ماهر، لأن العروس بالمثل الشعبي المصري «مقطوعة من شجرة»، بلا أم ولا أب ولا أخ، كما ستحكي لعم شوقي وهي معه في التاكسي. يجعل الفيلم مُتلقيه أمام منطق القصة القصيرة كقطاع عرضي من الحياة، يتكلم العمل الذي يُشبه قصص يوسف إدريس - لكن من دون ثقلها الكئيب -، يتكلم عن القاهرة الحاليّة، حيث الضجيج والزحام وعدّاد التاكسي الذي يعد بلا رحمة. وسط هذا الضجيج، يحدث تقاطع بين نوعين من الوحدة، وحدة المريض ووحدة شابة بسيطة بحجاب ومكياج زائد في المدينة التي تتوّه الجميع بمَنْ في ذلك أهلها. هذا التقاطع بين الوحدتين ربما سيلوّح بنوع خاص من الحُب، نوع يضحك ويقوم أساساً على المفارقة، وعلى السخرية من الموقف، والزحام والمرض، كما تفعل دائماً القاهرة مع كل شيء. تضيع حافظة أوراق عم شوقي الصفراء حين تذهب بالخطأ مع حقائب العروس العديدة، وتأخذ عم شوقي هذه الحكاية إلى اللفِّ بحثاً عن العروس في بيوت الخياطات، وفي الأماكن التي يُمكن أن تكون قد مرَّت عليها، وإذا كانت فكرة ضياع أوراق توثيق المرض في اليوم نفسه من ميعاد الطبيب هي فكرة مثيرة للحزن، فإن ما يفعله الفيلم هو العكس بالضبط، إذ يُبدد الكآبة ويتعقب هيئة الرجل قليل الحيلة وهو يمسك باقة ورد بسيطة ويتجول بها بين الشوارع باحثاً عن صاحبتها الأصليّة، متحملاً تلقي نظرات العالم الساخرة، هي أيضاً نسيت شيئاً من أشيائها معه. أو صورته وهو يضطر أن يترك الورد يُغسّل بالماء والصابون كي يُعيد له نضارته قبل أن تسترده العروس، وهكذا تتغير رائحة الورد الطبيعي إلى الأبد. لكن فيلم شريف البنداري لا يجعل حكاية ضياع الحافظة هذه كل حكاية الفيلم، على رغم أن هذا الأمر يُصبح متوقعاً في حالة الفيلم التجاري. بل إن عودة الحافظة إلى صاحبها تأخذ الفيلم في رحلة جديدة، لاكتشاف هذه الشابة الثرثارة، وهي تتكلم خائفة من الحياة المُنتظَرة، وكأنها أيضاً تعيد تفتيح قلب الرجل على الحياة، هو الذي سيتلقى موديلاً عرياناً بين يديه فجأة، وهو الذي سيكون عليه أن يُطمئن الشابة وأن يسمعها وأن يسمح بالتقاط صورة له معها بديلاً عن عريسها المتأخر، إنه انقلاب ليس فقط في الفيلم، لكن في الحياة كلها. صفق الحضور كثيراً للممثل محمد فريد وهو يُعيد اكتشاف نفسه هنا ربما، وحين أخذ يتكلم فخوراً في الندوة عقب العرض عن تفاصيل العمل الذي جعله نجماً حقيقياً إلى جانب ناهد السباعي. ربما بدا أحياناً أن زيادة الاعتناء بالتفاصيل الواقعية قد أصبح عبئاً على الفيلم، خصوصاً في مطّ الكلام على لسان الصديقتين، لكن اللقطات الصامتة حين كانت تنتظر ناهد وتمتن حضور عم شوقي معها في هذه اللحظة، كانت ممتلئة بالحياة، ولها قدرة على بعثها في المُتلقين بالمثل، الذين أيضاً تلقوا الإشارة وضحكوا من هذا الامتنان إذ يُصبح حقيقياً بين شخصين. عمل شريف البنداري الذي لا يتجاوز زمنه نصف الساعة، ربما سيكون فتحاً في الصناعة خلال الأيام القادمة، لو شوهد في شكل جيد، إنه عمل لا يتعالى على أحد، ولا يخضع لشيء، وهذا هو سرّه.