ليُشنق العملاء. هذه آخر الصيحات في أوساط الطبقة السياسية في لبنان. ليشنق العملاء. ليرتدِ الجمع ملابس بيض نقية لا يلوثها غبار ولا دم. يستطيع القضاء الحسم في شأن العمالة للعدو الإسرائيلي. هذا أمر في صلب واجبه ومسؤولياته. يستطيع القضاء الحسم في مدى تورط المعتقلين في الشبكات المرتبطة بهذا العدو، وما زال قائماً الدمار الذي ألحقته آلته العسكرية بالوطن مراراً وتكراراً، وأجدّها ما حدث في عدوان تموز (يوليو) 2006. غير أن الدعوة لنصب المشانق ليست شأناً سهلاً في النُظُم الديمقراطية، حتى لو لم تكن ديمقراطيتها في أبهى الصور، ولكنها ديمقراطية أنجزها الشعب اللبناني بتضحيات هائلة وتاريخ مديد. تزيين الدعوة إلى نصب المشانق مسألة لا يجدر بالحريصين على الديمقراطية تركها تمر بسهولة، ولو كان التصدي لفصل القمح عن الزؤان في شأنها أمراً شائكاً. مرة أخرى، يصل الوعي السياسي للسلطة التي يؤلّف أمراء حروب لبنان كثيراً من مُكوّناتها، إلى حال من الزيف ترتكز على محوٍ مضمر وإجباري للذاكرة الوطنية. كأن شيئاً لم يحدث في الوطن الهانئ الهادئ، فجأة، نبت العملاء. جاؤوا من خارج الزمان السياسي الراهن الممتد من تخلي الدولة عن سيادتها على بعض أراضيها (العرقوب تحديداً)، لتصبح "فتح لاند"، عبوراً إلى حروب تناسلت منذ 1975 (والطريف ان لا اتفاق حتى على اسمها)، فاجتياح 1978 وغزو 1982 واتفاق 17 أيار، وحروب الجبل والتهجيرات الطائفية والمذهبية والجماعية ودويلة سعد حداد (وليدة الاحتلال الاسرائيلي)، ووصولاً إلى حروب لم تتوقف، مع الانجاز الوطني الضخم، المتمثّل في إجبار إسرائيل على الانسحاب من الجنوب (2000)، وإنقاذ الوطن من التقسيم الذي كرّسته اسرائيل عبر دويلة لبنان الجنوبي. جاء العملاء من خارج زمان تمزّق النسيج الوطني الذي لم يتوقف حتى بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي، ومرحلة السلم "البارد" الذي تلته، برعاية إقليمية ودولية اسمها "إتفاق الطائف" (وفي بعض لحظاته، تحوّل أمراء حروب وقادة ميليشيات الى أركان سلطة)، التي سرعان ما صارت موضع خلاف وطني حمل شعارات متضاربة. ولم يتوقف تمزّق النسيج الوطني، على رغم المشروع الحريري. ولم يتوقف تمزّق النسيج الوطني، بالإندفاعة المذهبية المتصلة بمتغيّرات إقليمية ودولية أيضاً، وبمعسكري 8 و14 آذار ومكوّناتهما المذهبية والطوائفية التي قاد بعضها أيضاً أمراء حروب. لم يحدث ذلك كله. لننسه. جاء العملاء من خارج ذلك الزمان وحوادثه وتمزّقاته الوطنية. لننس أن الوطن ما زال ممزقاً في نسيجه الأساسي، وهو الأمر الذي يُفترض أن يكون أولوية النظام والسلطة، خصوصاً أنها تستمد مشروعيتها منه. لننس ذلك كله. لنطبّق العقوبة القصوى، في حق من ارتكب الجريمة القصوى (وهي هنا خيانة الوطن). لنترك المجازفة بالقول إن إعدام هؤلاء سيترك مرارات في مساحات لا تخلو من الميل الطوائفي والمذهبي، وهو الميل الذي ما زال ممسِكاً بخناق معظم المصير الوطني راهناً. لنعُد الى الأساس: كي تطبّق السلطة الحدّ الأقصى من العقوبة وطنياً، يُفترض أن يكون استنادها الى مشروعية وطنية قصوى. واستدراكاً، لا يتعلق الأمر بالشرعية، فهذه موجودة. والمشروعية تعني البعد الاخلاقي والفكري والقيمي وطنياً للسلطة. فكيف تكون تلك المشروعية في حالها القصوى، إذا كانت وقائع الزمن الحاضر مثقلة بتلك الالتباسات كلها؟ ولعلّ الأفضل ترك النقاش عند هذه النقطة، فما زال الجدل حول الإعدام، في لبنان والعالم العربي، بعيداً عن مستوى نقاش الاعدام كعقوبة بحدّ ذاتها. وهذا أمر يحتاج الى قول كثير.