لا دلالة على ما تشكل الاتفاقية السياسية الأخيرة بين الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير الكُردية (في 17 الجاري) من قطيعة مع ما سبقها ومع مُعادلات وتوازنات سياسية في إقليم كُردستان وعموم العراق، مثل دلالة موقف رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي وصفها ب «خطوة مهمة في طريق تجاوز الانقسامات داخل الإقليم والتفاهم الشامل مع بغداد». فالمالكي بما يُشكل من استقطاب سياسي عراقي وإقليمي، يشير موقفه إلى أن الاتفاقية ليست مُجرد تفاهم مُشترك بين تيارين سياسيين، بقدر ما تُشكل تعبيراً عن موقف سياسي جذري لكلا التشكيلين السياسيين من القضايا والتوازنات السياسية في إقليم كردستان وعموم العِراق، وفي شكلٍ نسبي في اللعبة السياسية الإقليمية. ولم يزِد من تلك الدلالة سوى الموقف الغامض والمُتردد الذي عبّرت عنه الشخصيات السياسية القريبة من الحزب الديموقراطي الكُردستاني. ففيما قال مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب أن الديموقراطي الكُردستاني «ستكون له كلمته» في شأن الاتفاقية. وجاء في بيان عن اجتماع المكتب السياسي الأخير للحزب أنها «توسيع الخلافات الداخلية وهذا ما لا يخدم حل المشاكل وجمود الخلافات في الإقليم، بل ستقودنا الى الأوضاع السابقة التي لا نرغب فيها، كما أنها في الوقت نفسه تقطع الطريق (الاتفاقية) على الاتحاد الوطني الكردستاني لتبنّي موقف مختلف عن موقف حركة التغيير التي تخطو نحو مزيد من التعقيد والتطرف». بيان الديموقراطي الكُردستاني يعني أن «التوازنات السياسية السابقة» انتهت، وأن هذه الاتفاقية ستخلق ديناميكية للتفاعل وتغيير التوازنات السياسية داخل الإقليم وموقع الأكراد في السُلطة المركزية في العراق. ذلك التوازن الذي كان مُركّباً على ثلاث نُقاط مُتداخلة: كان الحزب الديموقراطي الكُردستاني الحزب المركزي في المعادلة السياسية في الإقليم، يسيطر على مراكز الحُكم الرئيسية، على رئاسة الإقليم والوزراء وجزئياً على الأجهزة العسكرية والأمنية. أما الاتحاد الوطني الكُردستاني فهو الحزب الأقوى أمنياً وعسكرياً بعد الديموقراطي، لكنه ليس في ذلك الموقع سياسياً، لأن جزءاً كبيراً من تمثيله السياسي/ البرلماني انزاح لمصلحة «حركة التغيير»، وهذه الأخيرة على الرُغم من قوتها السياسية، كانت تفتقد الأدوات العملية اللازمة لفرض نفوذها في داخل الإقليم. كان ذلك قد أتاح للديموقراطي الكُردستاني اعتبار نفسه «حزب السلطة»، وإن في شكل نسبي وبتوزيع غير متوازن مع الاتحاد الوطني الكُردستاني، عبر الاتفاقية الاستراتيجية التي كانت بين الطرفين طوال السنوات السابقة. أمر مُعاكس كان قد ترتب على مستوى التمثيل والقرار الكُردي في بغداد، فصحيح أن الديموقراطي الكُردستاني كان يتمثل بمنصب الوزير الكُردي السيادي ومنصب نائب رئيس الوزراء، إلا أن اعتبار منصب رئيس الجمهورية من حصة الاتحاد الوطني الكُردستاني، جعل من سُلطة القرار الكُردي في بغداد، بصيغتها العامة، موكلة للاتحاد الوطني الكُردستاني، المعروف بدفء علاقته الاستراتيجية مع إيران، اللاعب الأكثر قُدرة وحيوية في العراق. كان التوازن السياسي بين القوى قد وصل إلى قمة استقراره عقب الانتخابات التشريعية الأخيرة في الإقليم عام 2013، ف «حركة التغيير» بعدما كانت قد حصدت قُرابة رُبع المقاعد البرلمانية، تم استيعابها سياسياً، عبر منحها منصب رئيس البرلمان وأربع وزارات إقليمية، منها وزارة المالية السيادية، وبذا دخلت في ائتلاف سياسي موضوعي مع الاتحاد والديموقراطي الكُردستاني. تبع ذلك توافق كُردي في توزيع المناصب الكُردية في بغداد، حيث مُنح منصب نائب رئيس البرلمان العراقي لبرلماني من «حركة التغيير». لكن ذلك التوافق/ التوازن ما لبث أن انهار مع بداية الحديث عن فترة تمديد ثانية لولاية رئيس الإقليم مسعود برزاني في صيف العام الماضي. ف «حركة التغيير» رأت في ذلك مُناسبة لإحراج الديموقراطي وللضغط عليه، عبر طرح مسألة انتهاء المُدد الدستورية لرئاسة برزاني للإقليم، وتجاوز زعامته السياسية وموقعه المركزي في حزبه والسلطة السياسية في الإقليم، عبر اللجوء إلى معادلة صفرية مع الديموقراطي الكُردستاني، تتجاوز كُل التوافقات التي كانت تستقر عليها التوازنات السياسية في الإقليم. ساعد «حركةَ التغيير» في «التوهم» بإمكان تحقيق ذلك، حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني، الذي كان يسعى لخلق بؤرة خلاف بين الديموقراطي و «التغيير»، حتى يستطيع أن يستعيد لنفسه الدور المركزي في الشراكة والتوازن مع الديموقراطي، وكذلك فعلت الأحزاب الأصغر حجماً في الإقليم، وبالذات الأحزاب الإسلامية، إذ كانت ترى في التصارعات البينية بين القوى الحزبية الكُبرى ديناميكية لتوسيع دورها ونفوذها في التوازنات السياسية. لكن الذي حصل، أثبت قُدرة الديموقراطي الكُردستاني حتى على خلق انشقاقات داخل الأحزاب الكُردستانية الأخرى، بالضبط مثلما حدث في حزب الاتحاد الإسلامي، حيث مال جزء من قيادته إلى «حركة التغيير»، بينما عارض الكثيرون من القياديين ذلك، ورفضوا مواجهة الديموقراطي الكُردستاني، وامتنع برلمانيون من الحزب عن حضور جلسات البرلمان التي خُصصت لسحب السُلطة من برزاني. صحيح أن غالبية بنود الاتفاقية عامة وتعرض بنوداً عن التعاضد والعمل المُشترك وبناء المؤسسات وسُلطة الإدارات اللامركزية في المحافظات، إلا أن ثمة بنوداً يُستدل في شكل واضح على أنها موجهة ضد الحزب الديموقراطي، بالذات البند الذي يُحدد أن النظام البرلماني هو الأصلح لإدارة شؤون الإقليم، وأن رئيس الحكومة يجب أن يكون المسؤول المُباشر عن السُلطة التنفيذية الأعلى. أو البندان اللذان يعبّران عن رغبة الطرفين في الدخول في الانتخابات المحلية والعراقية بقوائم موحّدة، أو المادة الحادية والعشرين من الاتفاقية، التي ترى أن كلا الطرفين لا يجوز أن يدخلا في اتفاق سياسي يتعارض مع بنود الاتفاقية، وهو ما يعني جوهرياً أن الاتفاق الاستراتيجي التقليدي بين الديموقراطي والاتحاد الوطني بات من الماضي. لكن البند الذي يُشير إلى الملاحق والأوراق غير المُعلنة أو التي يُمكن أن توقع مُستقبلاً، يبقى البند الأكثر إثارة للحساسية والمخاوف، إذ حذّر «الديموقراطي الكردستاني»، من «العودة إلى الماضي»، الماضي الذي كان غير حميدٍ للغاية بين «الإخوة الأعداء» الأكراد وبالذات البُسطاء منهم الذين ما عرفوا هناءة للعيش طوال قرن، خلا السنوات القليلة الماضية. * كاتب سوري