كان مارك توين مدخناً شرهاً وحين سئل عن مقدرته على التوقف عن التدخين، قال عبارته الشهيرة والمثقلة بالسخرية: «التوقف عن التدخين من أسهل الأمور، لقد توقفت عنه مئة مرة». تلك العبارة أجدها تلاحقني ليس في سياق التدخين وإنما في سياق الكتاب، فهي أمامي كلما دخلت مكتبة للاطلاع على آخر الإصدارات وشراء ما يناسب اهتماماتي. كنت قد اتخذت، ولمئة مرة ربما، قراراً بالتوقف عن شراء كتب جديدة حتى انتهي من قراءة ما تراكم لدي، لكني في كل مرة أجدني في الموقف نفسه الذي عبر عنه الكاتب الأميركي الشهير وإن بعد استبدال التدخين بالكتاب: التوقف عن شراء الكتب هو من أسهل الأمور!. المسألة، بطبيعة الحال، تتعلق بأمور كثيرة، بعادة الشراء، والتعود على الكتب وتجميعها، إلى جانب صعوبة تحقيق الحلم بقراءة ما ينبغي قراءته. مع الزمن تتراكم المجلدات وتتزاحم العناوين وتجد نفسك عاجزاً حتى عن قراءة العناوين نفسها. بل إن الأمر يصل بالبعض، كما وصل بي، إلى شراء الكتاب الواحد مرتين أو أكثر. ولا أظن الكتب، لو شعرت كما نشعر، ستكون أكثر غربة وألماً وإهانة حين تكرر فتزدوج وتتضاعف، كما لو كانت ضرائر لبعضها. وفي سياق كهذا سيبدو بيت المتنبي الشهير: «وخير صديق في الزمان كتاب» مثقلاً بالمفارقة والسخرية، أي صديق هذا الذي نحبه لكننا لا نستطيع أن نفيه حقه، بل الذي قد نهينه بأن نعبر عن استثقال المسؤولية التي يلقيها علينا حضوره، فكأنه يطالبنا بامتلاكه ثم الاهتمام به والإفادة منه، ولا نجد في أنفسنا القدرة على القيام بكل تلك المسؤولية الثقيلة. بل لعل التشبيه الأقرب هو الإكثار من النسل حتى يصل المرء إلى العجز عن الرعاية بل ربما إلى نسيان أسماء البنات والبنين، حتى إذا جاء الأحفاد تضاعفت المشكلة. وإن بدا أن صفة الحفيد لا تنطبق على الكتاب لنتذكر أن الكتب في مختلف فروع المعرفة والآداب والفنون يستدعي بعضها بعضاً فكأنها تتناسل إلى ما لا نهاية. قد يجد البعض منا عزاءً في عبارة كتلك التي قرأتها للعقاد في مقتبل عهدي بالقراءة، وهي أنه خير لك أن تقرأ كتاباً وتستوعبه من أن تقرأ عشرة كتب وتستوعبها نصف استيعاب. لكن للقراءة وجوهاً أخرى قد يصعب عند تذكرها أو مواجهتها الشعور بأي شيء من العزاء. بعض تلك الوجوه بدت لي حين كنت طالباً في مرحلة الدراسات العليا، أي في المرحلة التي تكثر فيها القراءة ويحتدم البحث عن مواضيع للبحث تملأ متطلبات المواد الدراسية المختلفة. أثناء ذلك الاحتدام وجدت نفسي إزاء ثلاث حالات من التأمل في علاقة الإنسان بالكتاب، حالات تمتد على مدى قرنين رسمها ثلاثة كتاب كبار في سجل الآداب الغربية. الحالة الأولى وجدتها لدى الشاعر الإنكليزي الرومانسي وردزورث في قصيدته المطولة «برليود»، أو مقدمة، التي أراد منها أن تكون جزءاً من سيرة ذاتية شعرية، الأمر الذي استدعى توقفه عند علاقته، بل علاقة الإنسان والحضارة الإنسانية، بالكتاب. تساءل وردزورث في الباب الخامس من قصيدته عن السبب وراء ذلك الوضع العجيب والمؤسي الناتج عن أن الإنسان لم يجد وعاء يحفظ المعرفة والإبداع سوى الورق، تلك المادة السريعة الفناء، وأن الطبيعة لم تعن الإنسان فتوفر له شيئاً مثل الصخر يمكنه أن يحفر عليه معارفه وفنونه فتبقى أزمنة طويلة بعيداً عن عوامل الدمار. واضح أن قلق الشاعر الإنكليزي تجاه الكتب بعيد تماماً عن القلق الذي عبرت عنه في مقدمة هذه المقالة، فالشاعر يخشى على الكتب من الدمار وليس أن الكتب تشكل عبئاً معرفياً، وقد أثبت الدهر أن مخاوف وردزورث ليست في محلها، أن الكتب، على رغم مما يحوطها من عوامل تدمير كالحرائق وأشكال التلف الأخرى، باقية ما بقي عسيب، وأنها بعيدة عن التلف الذي خشي عليها منه وردزورث لتبقى كما بقيت من قبل ومن بعد ليعاني من بقائها أحياناً طلاب مثلي كان عليهم أن يقرؤوها لا ليستمتعوا ويستفيدوا منها بالضرورة وإنما لكي يحصلوا الدرجات العلمية بعد أن تحولت أو تحول بعضها إلى قراءات أساسية لم يعد يشغل بها سوى المختصين أو الراغبين في الاختصاص. لقد بقيت الكتب ومنها تلك التي ألفها وردزورث نفسه لكي يطالب بقراءتها والحفاظ عليها كثيرون سواء كانوا ناشرين أم أمناء مكتبات أم باعة كتب أم قراء ودارسون من أمثالي. في النص الشعري الذي كتبه وردزورث ما يشي بأنه قد أدرك قدرة الكتاب على البقاء وإن بأشكال مختلفة، الأشكال التي أصبحنا اليوم أكثر وعياً بها ونحن نطالع الكتاب الإلكتروني ومغادرة المعرفة التدريجية للمساكن الورقية التي عاشت فيها منذ اكتشف الإنسان الورق وتخلى عن الصخور لتحط على شاشات الكومبيوتر كياناً رقمياً يشكله الواقع الافتراضي. لم يكن بإمكان شاعر من أوائل القرن ال 19 أن يتخيل الكتاب الإلكتروني، لكنه تخيل وسيلتين لبقاء الكتاب أحدهما الشكل البدائي، أي الصخر. في الباب الخامس من قصيدته ذكر الشاعر الإنكليزي أنه أثناء تأمله لمصائر الكتاب وخوفه عليه أخذته سنة من النوم فرأى في الحلم أعرابياً على جمل يحمل في يد حصاة وفي الأخرى صدَفَة، وحين سأل الشاعر الأعرابي، أو البدوي، عما يحمل ذكر الأخير أن الحصاة هي في الواقع كتاب إقليدس في الرياضيات المعروف بكتاب العناصر وأن الصدَفَة في يده الأخرى تحمل قصيدة صوتية، أو صوت شاعر ما زال يرن في الصدفة. مد البدوي الصدفة للشاعر فسمع هذا الأخير صوتاً شعرياً باللغة العربية التي لم يكن قادراً على فهمها، ولكنه فهم من الأعرابي أن القصيدة في الصدفة تتنبأ بطوفان يدمر الأرض وأنه أي الأعرابي ذاهب لإخفاء الكتاب والصدفة لكي لا يدمرهما الطوفان. لقد توقف قراء كثيرون أمام حلم وردزورث هذا وخرجوا منه بتفاسير كثيرة، لكني أستحضره لا لتقديم تفسير آخر، وإنما لأنه يتصل بحضور الكتاب في حياتنا الآن إذ يبدو ذلك الحضور إشكالياً في حياة الإنسان الثقافية لاسيما مع تراكم المعرفة واستحالة الإحاطة بما يود الكثير منا أن يحيطوا به، حتى صار القلق ليس على الكتاب وإنما من الكتاب أو بالأحرى من عبء المعرفة التي يمثلها الكتاب وشعور الإنسان المتزايد بأهمية المعرفة وفي الوقت نفسه بضخامتها وعجزه عن الإحاطة بها أو على الأقل بما يحتاجه منها. لقد تغير القلق من قلق على الكتاب إلى قلق منه وهذا هو ما عبر عنه الأرجنتيني بورخيس في العديد من نصوصه القصصية ومنها قصص مثل: «مكتبة بابل» و «عبادة الكتب» إلى جانب قصة بعنوان «كتاب الرمل» كنت قد ترجمتها قبل حوالى ثلاثين عاماً ونشرتها في مجلة «اليمامة» حينئذٍ. هذا القلق البورخيسي هو ما أود التوقف عنده في مقالة قادمة من حيث هو قلق معرفي ومعاصر.