ألان حسام الخالدي هو شاب عراقي نجا من الموت بأعجوبة بعد تلقيه 13 طعنة في انحاء متفرقة من جسده. حاله خطرة جداً لكن مستقرة كما يقول الاطباء. اما مصير شاب طاجيكي وآخر اوزبكي فكان مختلفاً، لأنهما فارقا الحياة قبل الوصول الى المستشفى. يجمع بين قصص الثلاثة أمران: المكان، حي معروف بكثافة وجود الاجانب فيه جنوب العاصمة الروسية موسكو. والزمان: ليلة الاحتفال بعيد ميلاد الزعيم النازي هتلر. كانت هذه الحصيلة الأولى لاحتفال الموت الذي اقامته عصابات «حليقي الرؤوس» في نيسان (ابريل) الماضي، أما الحصيلة النهائية بحسب معطيات الشرطة فهي 14 قتيلاً في روسيا كلها، وعشرات الجرحى. وتكاد تكون الرواية واحدة، مجموعة من الشبان المدججين بسلاسل الحديد والعصي والسكاكين ينتقون ضحاياهم بأعين خبيرة لا تخطئ البشرة السمراء وملامح الوجوه القوقازية أو الآسيوية. ويعد حادث الاعتداء على آلان الخالدي مثالاً كلاسيكياً للهجمات ذات الطابع العنصري، فهو لم يتعرض لأحد ولم يكن الحادث نتيجة شجار او حتى تبادل كلمات، وقالت سفيتلانا والدة آلان ل «الحياة» انه كان يركن سيارته قرب المنزل حوالى الثامنة مساء عندما فوجئ بصرخات قوية وهجوم طاغ شارك فيه نحو ثمانية شبان لم يكتفوا بضربه بل واصلوا طعنه بسكاكين بعد وقوعه ارضاً ليحصل على 13 طعنة بعضها في منطقتي القلب والرئتين، ما يوحي بأن تعمد القتل كان هدفاً للمهاجمين. وأوضحت سفيتلانا ان الاطباء أجروا سلسلة عمليات لانقاذ حياة آلان وهو أب لطفلين لم يتجاوز عمر احدهما الأشهر الأربعة. وتذكر قصة سفيتلانا بحوادث عدة تبدأ عادة في لحظات قليلة مع صرخات هستيرية تهدف الى بث الرعب في قلوب الضحايا وتنتهي بعد دقائق وسط بحر من الدماء. «روسيا ستنقذ العالم» صرخة مجنونة يرددها المهاجمون اثناء محاولة تمزيق جسد الضحية، من دون ان يفهم أحد، ممن أو ممّ ستنقذ روسيا هذا العالم؟ وغدا تنامي ظاهرة الاعتداءات العنصرية على اجانب في روسيا في السنوات الاخيرة، مصدر قلق للمنظمات الحقوقية واستياء نخب سياسية في البلاد تعتبر ان سمعة روسيا تتعرض لمخاطر جدية بعدما صارت توصف بأنها معقل أنشط المجموعات العنصرية المتطرفة في اوروبا. لكن الاهم من ذلك ان الظاهرة توسع الهوة بين مكونات المجتمع الروسي وتعزز مواقف الساعين الى زرع فتنة عرقية تهدد بتقسيم روسيا الى دويلات عدة على اساس الانتماء العرقي. ويثير كثيرون اسئلة تصعب الاجابة عنها، مثل: هل يمكن ان نصدق ان سبب المشكلة مجموعات من الشبان الغاضبين بسبب تدني الاحوال المعيشية والمعتقدين ان «الوافدين» من مناطق القوقاز أو جمهوريات آسيا الوسطى مسؤولون عن كل مصائب روسيا؟ ويحمل السؤال غمزاً من قناة احزاب وجهات كثيرة ترعى ولو في شكل غير معلن نشاط عصابات «حليقي الرؤوس» وتوظفه لخدمة مصالح سياسية او انتخابية او حتى اقتصادية احياناً. وقبل تفسير العبارة السابقة لا بد من توضيح المقصود ب «حليقي الرؤوس». يطلق هذا المصطلح على مجموعات من الشبان والفتيات في مراحل عمرية تتراوح بين 14 و24 سنة يشكلون ما يشبه العصابات المنظمة التي تلقّى كثير منها تدريبات صارمة. وبحسب معطيات الاجهزة المختصة، تنشط في روسيا حالياً، ألوف من هذه العصابات التي لا يزيد حجم الواحدة منها في غالب الاحيان عن عشرات الاشخاص، وهم منتشرون بقوة في غالبية المدن الروسية، لكن نشاطهم الاساسي يتركز في المدن الكبرى مثل موسكو وسان بطرسبورغ ويكاتيرنبورغ وتشهد مناطق سيبيريا والشرق الاقصى انتشاراً واسعاً لنشاطهم يعزوه الخبراء الى تركيبة البنية السكانية في هذه المناطق التي تعتمد اساساً على ابناء القومية الروسية بخلاف المدن الكبرى حيث المجتمع متعدد القوميات في شكل واضح. وتؤكد معطيات الاجهزة الامنية ان في روسيا حالياً نحو 70 الف شاب ينتمون الى هذه العصابات، ما يعد مؤشراً الى ضخامة هذه الظاهرة خصوصاً اذا عرفنا ان جزءاً كبيراً منهم خضعوا لتدريبات شبه عسكرية في معسكرات سرية، تعرفوا فيها الى كل انواع القتال القريب وتدربوا على الاسلحة النارية. ويرفع «النازيون الجدد» كما يطلق عليهم شعارات تدعو الى تطهير روسيا من الاجانب، وشكل بعضهم احزاباً سياسية فشلت في الحصول على ترخيص رسمي، لكنها ما زالت منذ سنوات تنشط من دون تعرضها لملاحقات جدية من جانب السلطات. اللافت ان هذه المجموعات وسعت نشاطها في السنوات الأخيرة ليطاول «اعداء الامة الروسية كلهم» ويدخل في هذه اللائحة «القوقازيون والآسيويون واليهود و... الروس الذين خانوا امتهم العظيمة» كما يشير منشور داخلي يتداوله اعضاء واحدة من المجموعات. وهذا الكلام وجد تطبيقاته اكثر من مرة خلال الفترة الأخيرة، اذ نظم المتطرفون القوميون اعتداءات دموية عدة استهدفت في بعض الاحيان حافلات وعربات قطار، وأسواقاً ومتاجر يكثر وجود الاجانب فيها. وفي حالات عدة استهدفت الهجمات روساً مدافعين عن حقوق الانسان او محامين وقضاة «تورطوا» في قضايا ضد ناشطي هذه العصابات، وكان ابرزها في آذار (مارس) الماضي عملية اغتيال القاضي ادوارد تشوفاشوف بعدما اصدر أحكاماً بالسجن على تسعة من «النازيين الجدد» ينتمون الى عصابة تطلق على نفسها تسمية «الذئاب البيض». وبلغ عدد ضحايا الفاشيين ومنهم «حليقو الرؤوس» خلال العام الماضي وحده على خلفية عرقية، 46 شخصاً، بحسب إحدى قنوات التلفزة الروسية. المشكلة أن ممارسات «النازيين الجدد» تحظى بتأييد علني تارة، وصامت في أحيان أخرى، من جانب فئات كثيرة في المجتمع، ودل استطلاع للرأي نُشرت نتائجه أخيراً الى أن نحو 12 في المئة من أبناء القومية الروسية يجاهرون بدعمهم المطلق للعنصريين، في مقابل نسبة مثلهم تحفظت عن إعلان موقف محدد حيال ممارساتهم، بينما قال نحو 65 في المئة إنهم يعارضون اللجوء إلى العنف ضد الأجانب و «الغرباء». ويدل الاستطلاع بنظرة سريعة إلى أن ربع المواطنين الروس يؤيدون أو يغضون الطرف عن جرائم العنصريين، وخطورة الأمر ظهرت في مناسبات عدة كانت الضحية فيها تصرخ مستنجدة بالشرطة أو بالمارّين على الطريق أثناء تعرضها للهجوم ولا من مجيب. ومن بين الحالات التي حظيت باهتمام إعلامي مميز في السنوات الأخيرة مقتل فتاة طاجيكية على أيدي مجموعة من «حليقي الرؤوس» في سان بطرسبورغ أمام عيني والدها، الذي حاول ان يستغيث فلم يُغث، والأدهى من ذلك أن المحكمة برأت القتلة في البداية «لعدم كفاية الأدلة»، ما دفع الكرملين إلى التدخل والضغط لإعادة مجريات القضية إلى قاضي التحقيق. وفي النتيجة حصل القتلة على أحكام «رمزية» تراوحت بين ثلاث سنوات ونصف السنة إلى خمس سنوات سجن مع تبرئة بعضهم... والمثير أن المحكمة أمعنت في تجاهل طلبات النيابة في التعامل مع القضية بصفتها جريمة جنائية وفق مادة تحظّر زرع فتن طائفية، وأصرت على المضي في جلسات المحاكمة وفقاً لقانون الجنح باعتبار أن القضية لا تزيد على كونها «زعرنة» شبان. وما زالت عالقة في الأذهان صورة الشاب السنغالي الذي التقطته عدسات الكاميرا راكعاً أمام شرطي يطلب منه... الرحمة. والصورة التي تناقلتها وسائل الاعلام بغزارة تخفي أكثر من معنى ومغزى، فالشاب كان يشارك عندها في تشييع صديقه الذي قُتل على أيدي «حليقي الرؤوس»، وكان يستغيث برجال شرطة وقفوا يتفرجون على الطرف الآخر من الشارع، ولم يكلفوا خاطرهم أن يعبروا الطريق لينقذوا الشاب. إنه مؤشر خطر يدل على تعاطف كثيرين داخل الأجهزة الأمنية مع القتلة عندما يكون الضحية أجنبياً! أمّا على الصعيد الرسمي المعلن، فقد أشار تقرير صدر أخيراً تحت عنوان «القوميون المتطرفون في روسيا وسبل التصدي لهم» إلى أن أجهزة الأمن الروسية قامت «بتصفية الجماعات الأكثر عدوانية وتطرفاً في العاصمة موسكو وضواحيها». ولكن التقرير يعترف بأن مؤشرات الدعوة إلى النفور من الآخر تكاد لا تتوقف. ويقول التقرير إن الجهات المختصة ما زالت تركز الاهتمام الرئيس على الجرائم الطفيفة والممارسات غير ذات الشأن، التي لا تلعب دوراً في تصفية نزعات النفور من الآخر بحسب الهوية، والنشاطات الداعمة لها، كنشر أفكارها في الإنترنت وتوزيع الدوريات المختلفة. ويلاحظ كثيرون أن تصريحات يطلقها بين الحين والآخر سياسيون متطرفون في روسيا تلقى آذاناً صاغية، وتفاعلاً قوياً من جانب العصابات المتطرفة. فالسياسي المثير للجدل، فلايمير جيرينوفسكي، قال غير مرة تحت قبة البرلمان إنه «لا يريد أن يتحدث أحفاده بلغة غير الروسية بعد سنوات»، في عملية تحريض مباشر وإشارة إلى تقارير تحريضية تقول إن غالبية السكان في روسيا بعد ربع قرن ستكون مسلمة، ولن تكون القومية الروسية العنصر الغالب فيها. ويفسر نائب مدير لجنة التحقيقات التابعة للنيابة العامة، فاسيلي بيسكاريوف، سعة نطاق مظاهر التطرف بكون روسيا دولة متعددة القوميات والأديان. وعلى حد قوله، فإن تفاقم الوضع أكثر يعود إلى غياب التنسيق بين هيئات وزارة الداخلية ولجان شؤون المراهقين مع الإدارات المحلية والمؤسسات التربوية. وقال فاسيلي بسكاريوف، في حديثة الى صحيفة «روسيسكايا غازيتا» شبه الرسمية، إن جغرافية التطرف تتسع، ونشاطات عناصر التجمعات المتطرفة تظهر أكثر في مناطق موسكو وبطرسبورغ وسفيردلوف وأوليانوف ويارسلافل، أي المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية. وبحسب توصيف بسكاريوف، فإن المتورطين بالاعتداءات بدافع الحقد القومي «مراهقون يمثلون حركات الشباب المتطرفة غير النظامية»، وأبرزها «حليقو الرؤوس». وتتميز هذه الجماعات بالصلات المنتظمة بين عناصرها، والتحرك الموحد عند تنفيذ العملية المخطط لها.