كنت تناولت في كتابي «الربيع العربي والبركان السوري – نحو سايكس – بيكو جديد» الذي صدر في كانون الأول (ديسمبر) 2012، إمكانية حدوث تغييرات أساسية في حدود بعض الدول العربية والإقليمية. وأثبتت التطورات والأحداث في السنوات الأربع اللاحقة في سورية والعراق أنّ ما رسمته اتّفاقية سايكس – بيكو قبل مئة سنة من حدود في الشرق الأوسط الحديث بات معرّضاً ليشهد تعديلات أساسية تحت تأثير ارتدادات «الربيع العربي» ونشوء الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من الأراضي السورية والعراقية، وبروز النزعة الاستقلالية الكردية في شمالي العراق وسورية. لا تختلف أحكام التاريخ في ظلّ الأحداث والتطوّرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط عن سابقاتها في مناطق أخرى من العالم، خصوصاً في أوروبا الشرقية والبلقان في العقود الثلاثة الماضية، حيث شهدت تلك الدول حالة من النزاعات أدّت في نهاية المطاف إلى تغييرات جيوسياسية وإلى تفكّك كيانات اتّحادية، وإلى إعادة رسم حدود الدول المجاورة، وكان آخرها ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وخروج مناطق من أوكرانيا عن سلطة الدولة المركزية. صحيح أنّ هناك نظاماً دولياً وشرعية دولية متمثّلة بالأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي، وهذه الشرعية مسؤولة عن فرض الأمن والسلام، وحماية استقلال وسيادة الدول الأعضاء، والاعتراف بالاتفاقيات الدولية والإقليمية، وفرض العقوبات على الدول في حال مخالفتها القوانين والمعاهدات، لكن كل ذلك لن يمنع حدوث تغييرات في الخرائط السياسية للدول. فالجغرافيا هي عنصر صامت، ويمكن أن تؤثّر الديناميات الديموغرافية القائمة عليها في إعادة رسم الحدود بين الأمم. إنّها أحكام التاريخ التي تتكرّر عبر العصور، والتي يعجز الناس في أغلب الحالات عن الاستفادة من دروسها. كانت فكرة تقسيم سورية والعراق ودول أخرى في الشرق الأوسط قد سبقت غزو العراق سنة 2003 وانفجار أحداث الربيع العربي التي انطلقت من تونس سنة 2010، فقد اقترحها المؤرّخ والباحث الاستراتيجي الأميركي برنارد لويس في ثمانينات القرن الماضي. وعاد برنارد لويس وتناول في دراسة نشرها في سنة 1990 «تصاعد الكراهية في العالم الإسلامي» ضد الحضارة الغربية، ولقي هذا المفهوم الجديد انتشاراً ورواجاً في أميركا والغرب، وهذا ما أوحى لصموئيل هنتنغتون كتابة أطروحته «صراع الحضارات». يعتبر برنارد لويس أبرز الخبراء المتخصصين في شؤون منطقة الشرق الأوسط، والذي سعى صنّاع القرار في واشنطن إلى استشارته من أجل وضع الاستراتجيات الخاصة بالمنطقة، ومن أبرزهم الرئيس جورج بوش الأب. ورأى الصحافي الأميركي جاكوب وايزبرغ أن برنارد لويس كان أبرز المثقفين تأثيراً في إطلاق عملية غزو العراق سنة 2003. وهناك من يرى أن لويس سعى من خلال مشروعه الى إعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط خلال اجتماع «بيلدربرغ في بادن- النمسا» سنة 1979. وكان الهدف المباشر من المشروع مواجهة الثورة الإسلامية في إيران، والتمدّد العسكري السوفياتي في أفغانستان في السنة نفسها. وقضت رؤية لويس بمواجهة الثورة الإيرانية من خلال التحريض على مواجهة عسكرية بين السنة والشيعة، ودعم حركة «الإخوان المسلمين». بينما تقتضي مواجهة المدّ السوفياتي إيجاد «قوس أزمات» على حدود الاتّحاد السوفياتي. بينما يجرى العمل على «بلقنة» دول الشرق الأوسط وفق التقسيمات الدينية والإتنية والمذهبية. وعاد لويس ليطوّر مشروعه بعد تفكّك الاتّحاد السوفياتي في بحث نشره في مجلة «فورين أفيرز» سنة 1992 تحت عنوان «إعادة التفكير والنظر في الشرق الأوسط»، حيث قدّم خريطة جديدة للمنطقة تقسّم سورية إلى مقاطعات درزية وعلوية. تتحوّل إلى دويلات مستقلّة، كما اقترح إقامة كيانات وطنية جديدة، كدويلة مارونية في لبنان، ودولة كردستان المستقلّة والتي تتضمّن أجزاء من تركيا وسورية والعراقوإيران، بالإضافة إلى دولة شيعية في العراق، ودولة عربية مستقلّة على أراضي مقاطعة الأحواز أو «خوزستان». كما تضمّن المشروع اقتراحاً بإنشاء دولة بلوشستان على أجزاء من باكستان وأفغانستان. طالب لويس باعتماد سياسة «لبننة» المنطقة وذلك باعتبار أنّ غالبية دول الشرق الأوسط (باستثناء مصر) هي مصطنعة التركيب ومعرّضة للتشظي. وإذا أضعفت السلطة المركزية بقدر كاف، حيث لا يوجد مجتمع مدني قادر على الحفاظ على الوحدة في ظل غياب الهوية المشتركة، فإنّ الدول ستتفكّك كما حصل في لبنان بعد تعميم الفوضى والاقتتال، والحروب المذهبية والعشائرية والمناطقية والسياسية»... كان هدف لويس من هذا المشروع الحؤول دون ظهور قوى وطنية قادرة على تحدّي الهيمنة الأميركية على المنطقة. وترجمت أميركا المشروع من خلال دورها في الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988)، وأصابت بذلك عصفورين بحجر واحد، حيث منعت إيران من تصدير الثورة الإسلامية، كما أضعفت العراق وأوقفت مسيرته السياسية والاقتصادية. يبدو أنّ مشروع تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة وضعيفة سيؤدّي إلى أزمات متتالية تترافق مع عمليات «تنظيف عرقي ومذهبي»، وسيقود بالتالي إلى «حرب الكلّ ضد الكلّ». وفي هكذا حالة (الدويلات المتحاربة) تبرز الحاجة ملحّة لوجود قوّة كبرى لإدارة الأزمات المتفجّرة، ومن يمكنه أن يتقدّم على واشنطن للقيام بذلك؟ لم يمت مشروع برنارد لويس، إذ عاد وظهر في عهد جورج دبليو بوش بعد غزو العراق، وفي ذروة حرب إسرائيل على لبنان عام 2006، حيث تحدثت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس من إسرائيل عن قيام «شرق أوسط جديد» وبحضور رئيس الحكومة إيهود أولمرت. وسارعت وسائل الإعلام الغربية في حينه إلى وصف الفكرة على أنّها إعلان قيام نظام شرق أوسطي جديد. كما ذهب عدد من المحلّلين إلى ربط هذا التصريح بمشروع التقسيم والفيديرالية في العراق، والذي يمكن تعميمه لاحقاً على عدد من دول الشرق الأوسط وجنوبي غرب ووسط آسيا. ورأت قيادات سياسية عربية في حديث رايس عن «شرق أوسط جديد» مشروعاً أميركياً – بريطانياً – اسرائيلياً لتقسيم المنطقة، وتغيير خرائط سايكس – بيكو من أجل تأمين المصالح الجيوستراتجية للدول الثلاث. يبدو أنّ فكرة إعادة رسم خريطة المنطقة عادت للتداول بقوّة في ظلّ الحرب الطاحنة التي يشهدها العراق وسورية ومشاركة الأطراف الإقليمية والدولية فيها وعلى رأسها الولاياتالمتحدةوروسيا. وتحدّث الروس في أكثر من مناسبة عن «نظام جديد» في سورية، كما لجأ وزير الخارجية الأميركي جون كيري في التهديد باعتماد الخطة «ب» في حال سقوط الهدنة في سورية، والذي فسّره الخبراء بأنّه يعني اللجوء إلى تقسيم سورية والعراق. ويحاول الأكراد في إقليم كردستان وفي شمال سورية الاستفادة من هذا الدعم الدولي لإعلان الاستقلال عن بغدادودمشق، من دون وجود معارضة دولية. واعتبر مسعود بارزاني أنّ العراق بات مقسّماً ولم يعد «لحدوده التي رسمت بموجب اتفاقية سايكس بيكو أيّ معنى» وبأنّ الوقت بات مناسباً لإعلان الاستقلال وإنهاء مئة عام من إراقة الدماء. يبدو بوضوح الآن أنّ ما ظهر من مشاريع أميركية بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، واستمرّ في التفاعل على مدى العقود اللاحقة قد دغدغ مشاعر بعض القيادات الطائفية والإتنية، وبتشجيع من بعض الأنظمة العربية الفاسدة والمستبدة من أجل خدمة بقائها في السلطة. ويبدو أيضاً أنّ الدوائر الأميركية مستمرّة في تشجيع ذلك، وهذا ما يؤشّر إليه تصريح جون كيري عن وجود الخطة «ب» لسورية أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في الأول من آذار (مارس) الماضي، ويتأيّد ذلك بنشر مقال للأميرال الأميركي جايمس ستافريديس في مجلة «فورين بوليسي» بعنوان «حان الوقت لتقسيم سورية» حيث اقترح إقامة دولة علوية على الساحل وعاصمتها دمشق، وإقامة دويلات صغيرة في المناطق الأخرى، ضمن نظام كونفيديرالي ضعيف. هل يدرك الحكام العرب خطورة التسليم بفكرة إعادة رسم الحدود الراهنة، وبأنّها ستؤدّي إلى حال من الفوضى الدينية والاتنية قد تستمرّ مئة عام كما سبق وحدث في أوروبا في القرون الوسطى، وذلك خدمة للمصالح الجيوستراتيجيّة الدولية والإسرائيلية؟ * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية