تغلق إسرائيل في هذه الأيام العام الثامن والستين من حياتها المكللة بالدم والنار. ويمتطي فقهاء الصهيونية عادة هذه المناسبة، لتذكير المعنيين، لاسيما الأنصار من اليهود وغير اليهود، بما حققته دولتهم بعد «استقلالها» من إنجازات وإبداعات وخوارق. توصيف يوم إعلان قيام إسرائيل بيوم «الاستقلال»، يكفي منفرداً لإصابة أي عاقل منصف بالغثيان. إذ ما هي الجهة الاستعمارية التي استقل المستوطنون الصهاينة عنها؟! الويل لهم إن كانوا يقصدون بريطانيا العظمى؛ التي منحتهم براءة اختراع الدولة وفرصة النشوء والتكوين والارتقاء من عدم، ثم أسبغت هي وحلفاؤها في عالم الغرب الحماية عليها حتى استوت على سوقها. إذا لم يكن هذا «الاستقلال» قد تحقَّق عن بريطانيا، فمن هم الذين كانوا يستعمرون الصهاينة؟ هل هم الفلسطينيون؟ هل هم العرب؟ هل هم الألمان؟ هل هم خلق آخر من عوالم نجهلها؟ حقاً مَن كان هؤلاء وكيف كان ذلك وأين ومتى؟! وإن كان دعاة المشروع الصهيوني ورعاته لا يستطيعون إنكار أن البريطانيين انتُدبوا على كيان يسمى حرفياً فلسطين، وأن هذا الكيان كان مُصنفاً من جانب عصبة الأمم ضمن الكيانات المرشحة سريعاً للاستقلال، وذلك يوم أن كانت إسرائيل بظهر الغيب، فمن أين واتتهم جرأة الزعم باستقلال هذه الإسرائيل؟! حقاً أعيت الوقاحة من يداويها. ما نعرفه وصار معلوماً للخلق أجمعين تقريباً، ولدى بعض الإسرائيليين أنفسهم، أن يوم «الاستقلال الإسرائيلي» المُبتَدَع كان بداية لنكبة الشعب الفلسطيني الممتدة، ونذير شؤم على المنطقة العربية وما يتصل بها ويتقاطع عندها من مصالح عالمية. ولا نبالغ إن ذهبنا إلى أن هذا «الاستقلال» كان طالعاً سوءاً ومعاناة لكثير من اليهود، الذين استُجلبوا إلى فلسطين والذين يعيشون كمواطنين أسوياء خارج الغيتو الإسرائيلي. بين يدي هذه الذكرى المنكودة، نجادل بأن كهنة المشروع الصهيوني الاستيطاني الأم وحراسه، لا يملكون الادعاء بأنهم؛ منذ قيام دولتهم وحتى لحظتنا هذه، قد تمكنوا من تحقيق كل مراداتهم. فدولتهم موشاة بالنقائص ومظاهر الفشل والعجز قياساً بما استهدفوه وما تمَّ التخطيطُ له على الورق وشحنه في العقول والوجدانات. إسرائيل اليوم لا تمتد جغرافياً من النيل إلى الفرات. وهي ما انفكت تنكمش عن بعض الفضاءات التي توسعت فيها ذات أوقات. لقد انسحبت من سيناء وغزة وجنوب لبنان وجهات من الضفة الفلسطينية. وفي وقت أو آخر ستغادر طوعاً أو كرهاً، والأرجح كرهاً، مساحات أخرى تحتلها من أرض الفلسطينيين والعرب. وهذه وضعية تخالف صراحة النداء الصهيوني الأسطوري حول أرض إسرائيل التوراتية الكبرى. وإسرائيل اليوم لا تضم في أقصى التقديرات سوى 40 في المئة من يهود العالم. وهو رقم يكاد يعادل عدد الأميركيين اليهود وحدهم في مدينة نيويورك وضواحيها، على رغم الأصوات الصهيونية التي بُحَت وأعيتها حيل الترغيب والترهيب الأفعوانية، لاستحثاث اليهود على الهجرة إلى «دولتهم المستقلة». وإسرائيل اليوم لا تشكل ملاذاً آمناً لليهود، بمن فيهم أولئك الذين استوطنوها واعتقدوا أنها البديل الأبدي من «عذابات الشتات». اليهودي في إسرائيل هو الأقل استشعاراً للطمأنينة والاستقرار المادي والمعنوي، مقارنةً ببقية أتباع ديانته في أنحاء المعمورة. ومؤدى ذلك، أن الصهيونية استدرجت إلى كيانها السياسي بعض اليهود بدعوى وقايتهم من أخطار محتملة للحياة بين الأغيار، وساقتهم إلى حيث تتربص بهم أخطار حقيقية، تجعلهم يمتشقون السلاح على مدار الوقت وينامون وجلين يترقبون بأنصاف أعيُن. وإسرائيل اليوم مصنفة في طليعة الدول ذات السلوك الأخطر على السلم والأمن العالميين، وهي تمثل باحتلالها فلسطين آخر نماذج القوى الاستعمارية. والأهم أنها لم تتمكن من شطب الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية والقومية من الوجود، ولا قضت على كفاحه الوطني؛ كما أنها تتعرض لحملات من المقاطعة نتيجة استعلائها على الشرائع والقوانين والقرارات الأممية. وهي ما زالت مكروهة ومرفوضة شعبياً في محيطها الإقليمي؛ ويُنظر إليها ككيان دخيل مستزرع لا يستمد قوته من ذاته ويتأبط شراً بهذا المحيط. وفي السياق ذاته، تبدو علاقات السلام الرسمي التي أبرمتها مع بعض الأطراف الإقليمية مثل الإثم الذي يحيك بالصدر ولا يستحب الجهر به أو عرضه على الملأ.وإسرائيل اليوم تعاني أزمات اجتماعية وقيمية وفساداً أخلاقياً وتفاوتاً طبقياً مروعاً، الى درجة أن ما يقرب من ثلث مستوطنيها اليهود الشبان يتربصون بأي فرص واعدة لمغادرتها نهائياً. وهي ما زالت دولة بلا دستور ولا حدود معلومة، بما يتناقض مع ولعها في بناء الحيطان العازلة من حولها. علاوة على أنها تنحدر سريعاً إلى هاوية الأبارتيد. الشاهد عموماً؛ أن إسرائيل اليوم ليست تلك الدولة التي تصورها الآباء المؤسسون. ليست مدينة على جبل ولا هي أرض اللبن والعسل، وهناك في داخلها وبين مواطنيها من يسألون حائرين عن آفاق وجودها. * كاتب فلسطيني