كلام فارغ. عبارة بسيطة. مضمونها بسيط أيضاً: هناك كلام يقال لكنه لا يحتوي شيئاً. لكن، تلك «الشتيمة» ربما بدت غريبة قليلاً بالنسبة إلى بعض العلماء. ماذا لو كان شيء ما فارغاً؟ ما هو السيء في ذلك الأمر؟ ما الضير من فراغ الأشياء أصلاً؟ لعل الفراغ أهم مما يبدو. أنظر إلى الذرّة. هناك نواة صلبة صغيرة، تدور حولها إلكترونات في مسارات مستمرة. حدّق في المشهد جيداً: إنه مملوء بالفراغ! لا تشكل النواة سوى جزء يسير جداً من حجم الذرّة، وأما الإلكترونات فهي لا تساوي سوى ما هو أقل من الهباء بقليل. يتألّف معظم حجم الذرّة من...لا شيء: إنّه فراغ. لا تعمل الذرّة إلا بفضل ذلك الفراغ. يمكّنها الفراغ من التفاعل مع ذرّات آخر والتشابك معها، فتتألف المواد وتحدث التفاعلات. هل رأيت صورة في أطلس مدرسي للنظام الشمسي؟ ما الذي تراه في الصورة؟ تأمّل قليلاً. ألا تبدو الشمس والكواكب السيّارة والأجرام الاخرى (كالنيازك والشهب)، مجرد نقاط متناثرة ضمن مساحة كبيرة ليس فيها سوى... الفراغ؟ هل تتخيّل لو كانت الذرّة مملؤة تماماً، ومرصوصة كلياً، ما الذي يحصل؟ هل هناك نظام شمسي ونجوم وكواكب وحركات ومسارات، لولا وجود فراغ تتحرّك فيه؟ إذاً، لماذا يعاب على الكلام أن يكون فارغاً؟ هل يجب أن يكون مملوءًا دوماً؟ ثمة أغنية فرنسية ذائع صيتها في ستينات القرن العشرين، عنوانها «رجل وامرأة». تألفت كلمات الأغنية من همهمات «دبا دبا دبا دبا»، يليها انقطاع الكلام وفراغه، حيث تتحرّك الموسيقى. تخيّل أن أغنية تتحدّث عن أحد أعقد علاقات الإنسان، لم يلزمها سوى همهمات غير مفهومة، والكثير من الفراغ و...الإبداع بالطبع. تتألف النُظُم الشمسية ومجموعات النجوم من فراغ هائل، يضم شيئاً قليلاً من المادة. يتألف الكون من ذرّات، ومعظمها فراغ. من يستطيع عبور الدراسة من دون أوقات الفراغ؟ من يعمل من دون وقت للفراغ؟ ربما يجدر التمهل قليلاً: الفراغ ربما يكون أكثر أهمية أشياء أخرى، بل ربما أنه يعطي الأشياء جدواها. وبالطبع يمكن لأي قارئ أن يقول إن هذه الكلمات ربما لا تزيد عن كونها كلام...فارغ! الفراغ الثقيل: دمار شامل لنعد إلى صورة الذرّة. ثمة شيء آخر. صحيح أنها مملؤة بالفراغ، لكنه فراغ شديد الجدوى! يمتلىء فراغ الذرة بالعلاقات، بمعنى القوى التي تنسج شكل الذرة وتحدّد هويتها وإمكاناتها وتحرّكاتها. يحتوي الفراغ على القوى التي تحدّد إمكان التفاعل بين ذرّة وأخرى. من دون الفراغ، لم يكن للمادة في الكون أن تتشكّل ولا أن تتنوّع. ويؤدي إدخال الفراغ إلى نواة الذرّة، إلى انشطارها وإخراج أشد ما عرف الإنسان من القوة والهول، لحد الآن. يبدو للفراغ وجه آخر، ربما أكثر تعقيداً من ضرورة وجوده أو أهميته. إدخال الفراغ إلى حيث لا يفترض به أن يكون (بمعنى تفجير نواة الذرة)، يؤدي إلى هلاك هائل. وفق نظرية «الانفجار الكبير» («بيغ بانغ» Big Bang)، انطلق تشكّل الكون من نقطة لا متناهية في الكثافة والوزن والحرارة والطاقة. تخيّل لو أنك جمعت الكون كله، بنجومه ومجراته كافة، ثم «كبستها» في نقطة تكون أقرب إلى الصفر. عند نقطة ال «بيغ - بانغ»، لا فراغ. ثمة كثافة هائلة، تمهّد لبداية تفوق الخيال. لا فراغ عند ال «بيغ- بانغ»، لا فراغ عند البداية الحقيقية، وليس البدايات المصطنعة. يبقى استدراك بسيط، لكنه مطلوب في الحديث عن الفراغ. تزايد أخيراً اهتمام العلماء بصورة مطّردة بما يُسمى «المادة السوداء» Dark Matter. في البداية، ظنّوا أنها مجرد قوة تعمل على المباعدة بين أرجاء الكون، فكأنها أيد عملاقة تدفع المجرّات إلى التفارق عن بعضها بعضاً. بقول آخر، كانت البداية مع «المادة السوداء» أنها فراغ هائل يتمدّد على حساب وجود الكون نفسه! ثم ما لبثت أن تراكمت الخبرة العلمية قليلاً، وهي ما زالت في بداياتها على أي حال. ثم تبيّن أن «المادة السوداء» (وهي عينها تسمى أيضاً «الطاقة السوداء» Black Energy)، أكثر تعقيداً مما يبدو. ويرى علماء كثيرون، خصوصاً ممن يعملون في فيزياء الذرّة والفضاء، أن معرفة الإنسان بهذه المادة، ليست سوى في بداياتها، ولا يعرفون تركيبتها، ولا علاقتها مع «المادة المُضادة» Anti Matter. وليس معروفاً الشيء الكثير عن الفراغ وتصرّفاته في «المادة المُضادة»، لكنه موجود، ولو إفتراضياً. ماذا عن الفراغ في «المادة السوداء» التي ربما كانت معظم ما يتألف منه الكون؟ سؤال جدير بالتفكير.