مع تقدم عقارب الساعة نحو لحظة إطلاق الحملة العسكرية على معقل تنظيم الدولة في مدينة سرت، تتبدى ملامح منافسة بين الجيش الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر في المنطقة الشرقية وقوات مصراتة في الغرب، التي ترابط حالياً في منطقة أبو قرين. وتقع أبو قرين على بعد 90 كيلومتراً من المناطق التي يسيطر عليها «داعش» والتي يزيد طولها على 250 كيلومتراً على السواحل الليبية. ويُخشى أن تتحول هذه المعركة العسكرية الوشيكة إلى مصدر إضافي للانقسام الذي قد يقود، وفق بعض المحللين، إلى تقسيم البلد. ولوحظ أن إعلان الناطق باسم الجنرال حفتر جاهزية القوات البرية والبحرية والجوية لخوض معركة سرت، أتى بعد إعلان رئيس الحكومة غير المعترف بها دولياً خليفة الغويل من طرابلس عن تشكيل غرفة عمليات خاصة لقيادة العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة في سرت. وأتت الخطوتان في أعقاب توجيه رئيس البرلمان المعترف به دولياً عقيلة صالح (المنسجم مع حفتر) بالتحرك لتحرير سرت من عناصر تنظيم الدولة. أما فايز السراج رئيس حكومة التوافق المُنبثقة من اتفاق الصخيرات (17 كانون الثاني/ديسمبر 2015) فما زال يحاول إقناع العواصم الغربية برفع الحظر عن تصدير السلاح إلى بلده لخوض المعركة مع «داعش». وأعلن المجلس الرئاسي (وهو مرجعية حكومة التوافق) من ناحيته تشكيل غرفة عمليات لقيادة الأعمال العسكرية في المنطقة الواقعة بين مصراتة وسرت. في المُحصلة توجد ثلاث غرف عمليات على الأقل لقيادة الحملة على التنظيم، وهو ما يُعتبر مؤشراً سلبياً وينطوي على احتمال الانزلاق مُجدداً نحو الحرب الأهلية. ويُعزى هذا التباعد إلى أن الحل السياسي في ليبيا ما زال هشاً، على رغم الخطوات المهمة التي قُطعت منذ التوصل إلى اتفاق الصخيرات. فحكومة التوافق التي أتت ثمرة لمسار مُعقد وعسير، ما زالت تُعاني من عطل دستوري يتعلق بشرعية وجودها، كونها لم تحصل على تفويض البرلمان، بسبب إصرار المعارضين لاتفاق الصخيرات على منع عقد جلسة منح الثقة. ولم يُجدِ نفعاً اللجوء إلى حيلة دستورية تستعيض عن جلسة منح الثقة بتواقيع أكثر من نصف أعضاء البرلمان المئتين. إلا أن رئيس الحكومة السراج لم ينتظر إجازة البرلمان لحكومته كي يقوم بسلسلة من الزيارات والاتصالات مع العواصم الرئيسة المؤثرة في الملف الليبي، مُستنداً على الدعم الذي يحظى به من غالبية القيادات في كل من طرابلس ومصراتة، وهو الدعم الذي رجح كفة التسوية السياسية بعد فشل استراتيجيا الصراع والإحتراب. بهذا المعنى يأتي رفع الحظر عن بيع السلاح إلى حكومة الوفاق المُعترف بها دولياً والإفراج عن الودائع المجمدة في الخارج في مقدم المطالب التي يطرحها السراج على محاوريه العرب والأجانب. فالمعركة مع «داعش» لن تكون نزهة عسكرية، كما أن الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية القاسية التي يعيشها الليبيون وسط تأخر صرف الرواتب والارتفاع الكبير في الأسعار، تجعل الحكومة في حرج شديد وتفرض عليها إيجاد الوسائل لحلول عاجلة. الأخطر من ذلك أن «داعش» يستثمر هذا الوقت الضائع للتوغل نحو الهلال النفطي للسيطرة في المرحلة الأولى على حقل السرير، وهو الحقل النفطي الرئيس في شرق ليبيا، تمهيداً لضرب حراس المنشآت النفطية وإحكام قبضته عليها. وكانت قوة من عناصر «داعش» هاجمت في آذار (مارس) الماضي ذلك الحقل، الذي يُؤمن أكثر من نصف منتوج ليبيا الحالي من النفط. غير أن استهداف التنظيم للحقول النفطية بدأ مع مطلع العام الجاري. ولا يُخفي «داعش» كونه يُخطط لربط مواقعه في سرت بمنطقة الجفارة، التي تضم حقل المبروك النفطي، كي يضمن موارد مالية لتمويل عملياته. والأرجح أن فتح المعركة العسكرية معه لن يُثنيهُ عن السعي للسيطرة على ما تيسر من حقول النفط، كي يكون وقوداً لحربه مع أعدائه. ولو توافر حد أدنى من الوعي بمصلحة البلد لدى الغريمين الكبيرين أو ما تبقى منهما أي «فجر ليبيا» في الغرب، القريبة من الجماعات الأصولية، و «عملية الكرامة» في الشرق بقيادة حفتر، لجنحا إلى التفاهم على أرضية تنازلات متبادلة لمجابهة خطر «داعش». وهذا التوافق ممكن بدليل أنه حصل في السنة الماضية عندما نفذ الداعشيون موجة تفجيرات انتحارية على مشارف مدينة مصراتة (غرب) فأرسل قادة الميليشيات في المدينة رُسُلاً إلى غرمائهم في الزنتان لوقف القتال بين الجانبين وتوجيه البنادق إلى عدوهم المشترك «داعش». وما من شك بأن الإجماع الدولي على دعم الحل السياسي في ليبيا يشكل ركيزة مهمة لنجاح مسار الوفاق، الذي لا تعترض عليه حالياً سوى الأقليات المتطرفة في شرق البلاد كما في غربها. أما الجسم الأكبر من التيارات السياسية والنزعات المناطقية وأعيان القبائل فيبدو أنه بات على قناعة بأن سبيل العنف والاقتتال سيُدمر البلد ولن يستفيد منه أحدٌ. غير أن أمراء الميليشيات التي حلت محل الدولة يبذلون قصارى جهدهم لتعطيل المسار والحؤول دون عودة مؤسسات الدولة إلى عملها الطبيعي. ويمكن القول إن المؤسستين الوحيدتين الباقيتين من حُطام دولة القذافي هما مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، وهاتان المؤسستان اعترفتا بحكومة التوافق وتعملان تحت سلطتها. وهذا عنصر مهم لمعاودة بناء المؤسسة العسكرية. لكن الموارد المُتاحة لهذه الحكومة تضاءلت في شكل كبير بسبب تراجع احتياط النقد الأجنبي وتناقص إنتاج النفط وانخفاض أسعاره عالمياً، فضلاً عن ارتفاع عجز الموازنة العامة خلال العام الماضي إلى أكثر من 18 بليون دولار. وترتبت على ذلك العجز إجراءاتٌ تقشفية وتأخيرٌ في صرف الرواتب وإلغاء مشاريع عدة. وانخفض منتوج ليبيا من النفط إلى أقل من 400 ألف برميل في اليوم، أي رُبع ما كانت تنتجه في 2010. وستُجابه حكومة الوفاق أيضاً مشكلة استمرار إغلاق ميناءي السدرة ورأس لانوف (شرق) أكبر موانئ البلاد منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بسبب القتال بين الفصائل المتنافسة. كذلك ما زال حقلا الشرارة والفيل (غرب) مُقفلين بسبب الاحتجاجات، على رغم جهود شيوخ القبائل لمعاودة فتحهما، وكانا يُنتجان نحو 400 ألف برميل من النفط يومياً. بتعبير آخر ما زالت حكومة التوافق بلا أظفار ولا سلطة لها خارج طرابلس تقريباً، على رغم الدعم الذي لقيته من مجالس بلدية كثيرة، بينما الملف الأمني يفرض نفسه على رأس أولوياتها، إلى جانب ملف إعادة الإعمار. وطالما لم يُرفع التجميد عن الأرصدة الليبية في الخارج سيستمر العجز عن حل كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية العالقة، مما يُقرب البلد من خانة الدول الفاشلة، فيما تُطالبُها الدول الأوروبية بضبط تدفق الهجرة غير النظامية من السواحل الليبية... * مدير المركز المغاربي للبحوث حول ليبيا