أبدأ مقالي بأني لا أصلي ولا أضع الحجاب، وأمور العقيدة في ذهني كما في ذهن معظم الناس غير واضحة، ولن أُكره نفسي عليها، كما لا أقبل، كي لا تقل محبتي، أن أسمح لشيء بإكراهي، ولا أظن أني بتصريحي هذا، أدفع إلى ما يكفّرني ويخطّئني ويحول دون قراءة مقالي. كلنا وحين تُذكَر كلمة الإسلام أمامنا، تحيلنا إلى مفهوم ما، تكوّن في أذهاننا عبر الزمن. كلمة الإسلام، حالياً، تحيل العديدين شرقاً وغرباً إلى مفهوم الإرهاب، بالضبط بن لادن وطالبان، وهذا مسوّغ طبعاً، طبقاً لأحداث التاريخ. أما من ناحيتي، فإن كلمة الإسلام تحيل إلى المنطقة التي كبرت فيها، حيث لم أتعرض يوماً إلى أي إكراه من الأهل من أجل أن أقوم بفرائض الدين. كانت الأم تشجع بالمكافآت من أجل الصلاة وحفظ القرآن، وحين، بنظرها، يقصر أحدنا، تهمله. الإخوة كانوا معتدلين مع ميل الكبير إلى التدين. تركنا الأخ الكبير وكنت في التاسعة. أحاول أن أركز كي أمسك بحدث سلبيّ له في البيت، عبثاً، كان يدللنا ويصغي لإخواته. حين صرت في الرابعة عشرة وحتى الثامنة عشرة، وضعت غطاء الرأس حرجاً من الشيخات، لم أكن أرتاح لمواعظهن حين السبابة مرفوعة، منبهة ومهددة تارة، وموحّدة بالشهادة تارة أخرى، ولكن لسبب غير واضح، ربما كان الوضع السياسي، وعلى رغم نفوري من تشدد الشيخات، ارتفع خط التدين عندي، وبات حفظ القرآن وصلاة قيام الليل، أداءً يومياً، وأظن أن هذا الارتفاع الحاد في الخط البياني هو ما ساهم في عزوفي عنه بعد ذلك، أو ما جعل تجاوبي مع فروض الدين غير سلس. أود أن أقول إن النصح بمزيد من التعمق في الدين، يؤدي فيما بعد إلى عكس الغاية، لكن على رغم التجربة لم تشكل هذه الفرائض عائقاً أمام طموحي في الحياة، ولم تشكل عبئاً على ذاكرتي. لم يحدث من بين أكثر من 300 طالبة تضع غطاء على الرأس إسلامياً أو حسب العرف والعادة، أن اشتكت أن سبب أزمتها النفسية كانت من أداء فروض الدين الإسلامي. كانت بعضهن يمارسن هذا بتشدد منفّر وبعضهن يمارسنه بطيب خاطر وكثيرات يمارسن هذا محرجات، إنما لم يصل الإحراج إلى درجة التأزم، وغالبية البنات كانت تفعل هذا بالفطرة، كأنه العرف والعادة. لم يحدث أن بنتاً في المدرسة أيام المراهقة، اشتكت من تعامل الأخ أو الأب، ولم يحدث على الإطلاق أن تزوج أبو بنت على أمها. كثيرات أكملن التعليم، ولم يقف أخ في سبيل تعليم أخته أو مانع سفرها إلى جامعة في مدينة ثانية. إفطار رمضان والسحور، وقفة العيد، صلاة التراويح، وعودة الحجاج، كانت كلها مبهجة، وقد أدينا العمرة في السعودية، وكانت لطيفة ومفرحة، وربما لم أعد ألقى هذه البهجة حين بدأت أبحث في الثقافة والسياسة. وكان هناك في الحارة نفسها أسرة أتردد إلى بيتها. البنت صديقتي، وأمها في منتهى الطيبة، حين فوجئت بأن شاب البيت يحمل سلاحاً، صدمت، وعلى رغم نفوري الشديد، أبت ذاكرتي، أن تقبل أن تلك العائلة تربي شاباً يحمل السلاح وباسم النص الديني يقتل، متيقنة أن إجرام الشاب كان خارج إرادته وخارج طبيعته وخارج أهل بيته. وأن لا علاقة بين سجادة صلاته وبين تجنيده ليكون قاتلاً، إذ كيف يمكن أن نفهم أن من يجلس على سجادة الصلاة، يمكن أن يفزّ إلى سلاحه، بدل أن يستمر في سلام العبادة؟ سؤال يحيّر ويربك، كيف ما زال بعضهم ينطلق من نصوص غير واضحة أو مشكِلة...؟ كان هناك خيط رفيع وليس فاصلاً بين الاستسلام لكل النصوص، وبين الحفاظ على الكينونة، ونجحنا أخيراً، بألّا نستسلم للنصوص، إنما أيضاً أن لا ننفر منها، لكي لا تصبح عصيّة علينا ولا نصبح عصاة على بعضنا، نحن أولاد بلد واحد. تصيبنا النخوة حين نقرأ تهجماً على الإسلام والمسلمين، كيف لنا أن نحمي الهوية من ممارسات القتل؟ ولا أخفي وبسبب نخوتي تلك، حاولت في فترة أن أتعمق في النصوص الفقهية، ووجدت أن مواجهتها بأدواتي أمر مرهق، فلكي يعالجها الإنسان ويتعامل معها، يجب أن يكون مشبعاً بها، والأمر لم يعد كذلك في داخلي، ولا أستطيعه، وأدواتي ليست منها. فهي تحتاج علماءها لتهيئتها، وأود أن أحامي، إنما أقف عاجزة عن فعل هذا حين أجد خطاباً إسلامياً حانقاً موتوراً... بالطبع يوجد الخطاب الحانق نفسه من بعض اللّادينيين ضد الدينيين، ولكنني، في الواقع، عاطفياً أميل إلى الاعتناء بالبيئة التي اعتنت بي، وأتلهف أن يكون للإسلامي خطاب واقعي عقلاني. أردت القول إن الحنوّ للعيش في هذه الأجواء، جيران يصلّون، ويصومون ويحجّون، يريد حباً وسلاماً... سلاماً يبرر لنا نخوتنا ويحافظ على توازن هويتنا. أتمنى نصوصاً تأتي قدسيتها من جمال معتنقيها، سلامهم، وليس نصوصاً تختلف تفسيراتها باختلاف نزعات معتنقيها. حين كنت أُسأل عن ديني في بداية قدومي إلى أوروبا، ولأن السؤال التحقيقي يستدعي جواباً خاصاً، كنت أجيب إني آتية من عائلة مسلمة، أما الآن فإني أجيب، مسلمة أتحدث العربية. أقول مسلمة كي أحمي منبتنا، من الانتزاع، على رغم الحرج الذي يصيبنا من عقيدة بن لادن وطالبان. وتجد من يريد أن يلغي الدين الإسلامي أو يمحوه، يبادرك بجملة واضحة «الذبح على الطريقة الإسلامية» والبرهان طالبان. وأقف متلعثمة لأن محدثي محق تماماً، ولأن الجملة ذاتها يستخدمها بعض من يظنون أنفسهم حماة للإسلام «الذبح على الطريقة الإسلامية» أسوة بطالبان. واذا كان هناك من سيأتي الآن بنصوص قرآنية تحضّ على العنف، فإن في نصوص كل العقائد والديانات في التاريخ فتاوى لا يمكن أن يقبلها عقل، يفهم المرء أن عليه أن يدع هذه الفتاوى بعهدة التاريخ، ويعي أنها كانت بنت زمانها وظرفها. أفلا من وصفة تترك الدين بسلام، بعيداً من الصراعات السياسية والنزاعات البشرية؟ ألا من وصفة تحمي روحانيات العقيدة، ثقافتنا؟ أم سأصاب باليأس وأترك أمر حماية «الإسلام الجميل» الذي في ذاكرتي، عاداتنا وأعيادنا؟ سيأتي إسلامي متشدد، ليقول إنني أستخدم أنعم الكلمات كي أتسلل إلى العقيدة، وللقائل الحق، إذ إن كل الأغراض والأمنيات الآن، هي تخفيف حدة التعصب، وإبطال فتاوى، رفض وتكفير الآخر. * كاتبة سورية تعيش في السويد.