نعم... لن يتوقف زخم التاريخ الأميركي عن اتجاهاته ووتيرته المضادة لإرادة الشعوب وأشواقها إلا بمخالفة فحوى المأثورة الشهيرة «أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك»، تلك التي طوقت امتداداته ورسمت أفقاً نقيضاً لكل الشرائع والأعراف الإنسانية حتى بات تاريخاً ملفوظاً حفل بما حفل من العنف والدموية وتقويض الحريات والنرجسية السياسية وصار مثلا رائداً للشذوذ العسكري والاستراتيجي، و انعكست قسمات هذا المسار في شيء منها على الكيان الإيراني، ثم أصابت كثيراً تلك الرؤى التي استبطنت أغوار الشخصية الإيرانية في محاولة لتوصيف أبعادها ومحدداتها التي تفرز طابعاً قومياً متفرداً، يتسم أول ما يتسم بالنزوع الحاد نحو السيطرة وإطلاق العنان لكل معاني تأكيد الذات وعشق المنافسة والتحدي. فضلاً عن صفة التحضر التي أثّرت بها حركة العلوم والثقافة والفنون أمداً طويلاً. لكن كان أخص ما يميز تلك الشخصية هو أنها بالفعل الشخصية المنعزلة التي تشيد لنفسها عالماً صدامياً خاصاً يجعلها دائماً تتعارض مع المعطيات المصلحية للدول الأخرى وهو ما تتضاءل معه فرص التعايش السلمي. ولعل بعضاً من هذه السمات تكشفت الآن، إذ تعايش إيران لحظات حرجة يكتنفها نوع من التوتر والتحلل الداخلي والانشقاق الذاتي المخل بالنسق العام - وهي تمر بمرحلة تاريخية فاصلة تتحول خلالها الى دولة نووية - إذ أثارت المعركة الانتخابية الطاحنة بين نجاد وخصومه تقلبات داخلية كبرى اهتز لها الهيكل السياسي الإيراني واستفز مطامع دول وحرّك شماتة دول أخرى، لكن الشماتة الكبرى هي التي حققتها بالفعل الولاياتالمتحدة الأميركية حين استطاعت أن تستعدي حلفاء إيران وتفض من حولها تلك القوى المؤازرة للطموح النووي، ثم منطلقة نحو استثمار طاقات الجبهة المعارضة للنظام الإيراني وهي الجبهة المشككة في نزاهة وشرعية الانتخابات الرئاسية التي توجت هذا النظام المتصدي للقوى الغربية والمتحدي للدولة المارقة والمهدد للمصالح الغربية في العالم العربي والإسلامي. وهو ما أطلق لسان أوباما في الذكرى الأولى للانتخابات الرئاسية مردداً أنها مسؤولية جميع الشعوب والأمم الحرة أن تقف إلى جانب أولئك الذين ينشدون الحرية والعدالة والكرامة. فشجاعة الشعب الإيراني هي مثال يحتذى وتحد كبير كي نواصل جهودنا لتغيير مجرى التاريخ نحو العدالة! وهي صيحات قديمة رددها النظام الأميركي من قبل وأودت بسمعته وجلبت عليه عواصف الكراهية، ذلك أنها لا تحمل في مضموناتها إلا معاني الفراغ والاحتيال السياسي وتعليق الشعوب بهالات السراب، ولعل كلمات أوباما إنما تكشف ضمناً أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع أن تخوض غمار حرب جديدة مع إيران وأنها قد اكتفت كما اكتفت من قبل بتنفيذ قرار العقوبات ضد إيران التي لم ترتدع من قبل مراراً، بل وخلعت عنها غطاء التعاطف السياسي لدى بعض أطراف المحيط الدولي ولجأت لمفردات نظرية التحريض من الداخل متكئة على كتائب المعارضة الإيرانية التي خذلتها حتى في الخروج لتظاهرة عابرة تعبر عن أبسط مظاهر الاحتجاج والغضب! ولعل كل ذلك يفرض بالضرورة التواجه مع بعض التساؤلات العابرة مثل: هل يمثل التشكيك الآن في فوز نجاد مكيدة سياسية أم مؤامرة تستهدف إقصاءه عن السلطة؟ وهل يمكن أن تتحول تلك الزوبعة الانتخابية الفائتة إلى ثورة داخلية يصعب احتواؤها؟ وما هي الضمانات الفعلية المطروحة في الرؤية الأميركية سلفاً لنزاهة العملية الانتخابية؟ وما هو وجه الغرابة في فوز نجاد بنسبة تتجاوز ثلاثة وستين في المئة وقد تحققت له شعبية كاسحة خلال فترة رئاسته؟ وهل توافر بعض من المقومات الشخصية والسياسية والاستراتيجية في المرشحين الآخرين حتى يخوضوا جولات استكمال المشروع النووي الذي يمثل القضية الفاصلة بين إيران وأميركا؟ وهل تمثل ذكرى المأزق الانتخابي بؤرة التوقيت الاستراتيجي الأنسب لدى جبهات غربية استقطاباً لأحد القيادات المرشحة لثني إيران وردها عن مشروعها النووي؟ وما هي احتمالات تجاوز هذا المأزق الانتخابي في المنظور الأميركي الآن؟ هل بإعادة فرز الأصوات في كل المناطق الإيرانية مرة أخرى، وهو ما قد يتواجه بالكثير من العقبات؟ أم بإعادة فرز بعض الصناديق بشكل عشوائي دال على صحة الأرقام الموجودة للنتائج الميدانية أم بإلغاء الصناديق المختلف عليها فقط وهو ما يفتح مجال إجراء دورة انتخابية ثانية بين نجاد وموسوي!. إن قراءة مفردات المشهد الإيراني إنما تؤكد على إجمالها توجه الإرادة الجماهيرية نحو الرئيس نجاد بعيداً من ظروف واحتماليات جبهات المعارضة والتشكيك المحققة لبعض من التوازنات السياسية. لكن، على صعيد آخر، فإن إيران في حاجة – لاسيما في لحظات التأزم الكوني سياسياً واقتصادياً وثقافياً - لنوع خاص من الزعامة هي نفسها تلك الزعامة التي تحدت ولا زالت كل الممكنات والمستحيلات في صمود وشموخ شرقي دفاعاً عن حقوق إيران وموقفها الآني وتاريخها ومستقبلها، مهما كانت إغراءات وتهديدات القوى الغربية المتربصة بأي تحول إيجابي في العالم العربي والإسلامي ما لم تساوم على ما يتجاوز هذا التحول مرات ومرات! * كاتب مصري.