«ما الذي يغضبك مما أعمل؟ أفهم أنه أمر لا ترضاه لنفسك، وأفهم أنك تؤمن أن عملي يضرني، قد أفهم شفقتك علي، ولكن لا أفهم غضبك». الغضب ما هو إلا انفعال مسبب عن خوف، يقع أمر ما، يفسره العقل على أنه أمر يهدد الذات، فيصدر الانفعال على شكل غضب، فلا يوجد غضب بغير خوف، سواء كان غضباً من الأطفال في المنزل، أو من الزميل في مكان العمل، أو حتى من إهانة مباشرة، وكما يعرف كل واحد من تجربته أو تجربتها الخاصة مع الغضب، فإننا لا نعي إلا حال الغضب، ولكن لا نعي الخوف الذي سبقه، كما لا نعي العملية العقلية التي فسرت الحدث، وبالتالي نربط الغضب ربطاً مباشراً بالحدث الذي أثاره، إدراج عاملي التفسير العقلي، والخوف في تفسيرنا للغضب يساعدنا على فهمه بشكل كبير، ويجعل سؤالنا حال الغضب: لماذا يفسر عقلي هذا بأنه مخيف؟ التربية أو التجربة الشخصية منشأ كثير من تفسيراتنا، التي تعمل بغير وعينا بها، ولذلك نجد شخصين في مزاج إيجابي يواجهان موقفاً مشتركاً مزعجاً فيهيج أحدهما في حين أن الثاني يكتفي بإظهار الضيق، الفرق في رد فعلهما ربما يعود إلى الفرق في أن أحدهما ربط الموقف بخوف، والثاني بمجرد لا ملاءمة. حالات الغضب السياسي أو الاجتماعي أيضاً مصدرها الخوف، الساخطون على انتهاكات حقوق الإنسان يؤمنون بوحدة حرمة الإنسان، وأن انتهاكها في أي مكان مهما بُعد سيؤدي يوماً ما إلى أن تنتهك عندهم، هذا إضافة إلى عامل التعاطف مع الأبرياء والمظلومين، لدرجة أنهم يشعرون أن ما يقع على أولئك يقع عليهم. حالات الغضب تنشأ من رؤية للعالم تربط بين قرارات عليا وبين أضرار شخصية، زيادات مجحفة في ضرائبي، أو تدمير لبيئتي الطبيعية، أو خسارة في فرصي المعيشية، أو انتهاكات لحقوقي الإنسانية، وهي تخلق الربط بطريقة يمكن فهمها وتحليلها، وهي تبين الضرر بشكل يمكن قياسه، ولذلك فسبيلها الوحيد هو الجدل الموضوعي العام. الساخطون ضد أعمال أو آراء فردية لا تؤثر إلا على من يختارها أيضاً يملكون رؤية للعالم تجعلهم يربطون بين العمل أو الرأي وبين الخوف، وهم ينتمون إلى الأديان كافة، مسلمة ومسيحية ويهودية، ولكن فهم الربط في هذه الحال أعقد، فكيف نخلق ربطاً بين امرأة تسافر بغير محرم، وبين رأي يؤيد الاختلاط، وبين رأي يشجع تحديد النسل من جهة، وبين خطر يخيف الفرد الساخط من جهة أخرى؟ ربما نقول إن الأمر بسبب رؤية للعالم تجعل الفرد فيه جندياً، فالعالم مسرح حرب كونية أزلية بين قوى الخير المطلق وبين قوى الشر المطلق، ونتيجة هذا الصراع ستكون كونية وأبدية، كما ستكون لا نهائية في حجم أثرها، لذلك فإن أهم ما يجب الاهتمام به خلال الحياة هو هذه المعركة، والدور الوحيد الذي يستحق أن يتم تمثله هو دور الجندي المنتصر لقوى الخير الكونية أمام قوى الشر، ولأنها حرب كونية فكل حدث صغير أو كبير في أي بقعة ومن أي شخص هي جزء يؤثر على نتائج الحرب، ولذلك الجندي يغضب لأنه يرى مخالفة الآخرين دعماً لقوى الشر التي هو يحاربها، ولأنه تمثل دور الجندي فإنه لن يعرف غير العنف والشراسة، ولن يقبل إلا الطاعة والانضباط التام. قصة سلمان رشدي لم تكن مجرد قصة خيالية، أقصى حكمنا عليها أن كاتبها تجاوز حدود الأدب مع النبي «عليه الصلاة السلام»، لا! إنها قصة كتبت ضد كل المسلمين، وتستهدفهم جميعاً، وكذلك صور الصحافي الدنماركي، ليست مجرد شذوذ صحافي مغمور، بل هي سهم موجه إلى كرامة المسلمين كافة، فيلم «الدافينشي كود» ليس مجرد عمل فني أراد أن يستثمر قصصاً تاريخية مسيحية لخلق حبكة فريدة، بل هو موجه ضد العقيدة الكاثولوكية، وفيلم «آلام المسيح» لم يكن وصفاً دقيقاً وإنسانياً لمعاناة «المسيح» في لحظاته الأخيرة قبل صلبه، ولكنه فيلم يستهدف اليهود في كل مكان في العالم، الأفعال كلها تتسم بسمة الشخصية، ولذلك يكون رد الفعل شخصياً. المشكلة أن رؤية العالم هذه لا تكفي لتفسير الغضب الشديد، إنها ملائمة في أحسن الأحوال لتفسير عدم الرضا أو ربما بعض السخط، مجرد كوني جندياً في حرب كونية قد يعني أنني سأربط بين الأحداث كافة، وأنني سأعتبرها شخصية تماماً، ولكن لا يعني أنني سأشعر أنها تهددني، لا يعني أنها ستخيفني، فلماذا أغضب؟ ما العلاقة بين دوري كجندي في الصراع الكوني الكبير وبين مصالحي المباشرة والحيوية واليومية؟ ربما نجد العلاقة في مستوى آخر من هذه الرؤية، هذا الفرد يرى العالم حرباً، وكأي حرب فإن تفاصيلها ثانوية، هموم الجندي اليومية أثناء الحرب غير ذات قيمة، المهم هو الانتصار الكبير الذي سيتحقق، ولأن الجندي لا يستطيع إلا أن يفكر فليكن التفكير من أجل الانتصار. الهموم الطبيعية للشخص لا تكتسي قيمة إلا من خلال إصباغها سمة الحرب الكبرى، ألا نسمع أن الأكل والنوم والرياضة للتقوي على الطاعة؟ لا شيء يملك قيمة ذاتية هنا، حتى التناسل غرضه حربي وعسكري، إن صاحب هذه الرؤية لا يمكنه التفكير في أي شيء إلا بلغة الصراع الكوني، وبالتالي فهمومه الفردية اليومية الخاصة والبسيطة ستصير ممثلة ومحققة من خلال نتائج تلك المعركة الكبرى، وعندها تختلط عليه الأمور ويصبح أي مشارك في المعركة الكبرى ليس فقط عدواً على مستوى كوني، وإنما عدو على مستوى شخصي ومباشر. إن ما نشهد اليوم من غضب «المحتسبين لله» هو في نهاية التحليل غضب لأنفسهم ولقضاياهم الحياتية، بعض قضاياهم عامة مثل توزيع الفرص العادلة المعيشية والتعليمية والعلاجية، وبعضها خاصة كالحسد ومرارة الفشل والحنق من المجتمع، ولكنها في نهاية الأمر قضايا مشتركة مع غيرهم، إنهم يخشون ما يخشاه غيرهم ولكن رؤيتهم للعالم تضيّق عليهم التعبير الصريح عنها، فيضطرون وبغير وعي إلى إثارة سخطهم على غيرهم ووصف ذلك السخط بأنه «غضب لله». * كاتب سعودي. [email protected]