على رغم تكرار الكتابة من - قَبْل - في جرح يتعلق بمعايير الإنسانية الحقيقية، ويختبر الأبوة الحانية والأمومة العظيمة في «مفصل»، إلا أنني لم أجد مهرباً من الكتابة مرة أخرى في الجرح المتجدد، فمن المؤلم تماماً أن تساق فتاة في العاشرة إلى أحضان من يكبرها بأكثر من 15 عاماً في ظل قناعة أبوية بأنه الأعلم بمصلحة ابنته وخوفه الشديد الغريب من أن يختطفها «قطار العنوسة»، ولا غرابة أيضاً أن تأتي الأيام القادمة بآلام من هذا النوع في ظل تواجد من يصر على «أن زواج القصر مشروع ومن الخطأ انتقاده وأن الكثير من صغار السن قد يكونون أكثر جاهزية للزواج من الكبار والناضجين» وما سبق تحديداً قراءة حرفية سابقة لرأي مأذون شرعي في هذه القضية تحديداً، وما زلت أحتفظ به حتى اقتنع كل يوم بأن بيننا من لا يزال يفكر ويشارك ويصنع الرؤى والأطروحات للجيل الحالي بعقلية متحجرة قديمة تخاف من مجرد الاجتهاد المطلوب، والقراءة البسيطة للتفاصيل، لأن ذلك يفقد مجتمعه المحيط به الثقة ومكاسب تسيير الأمور! كانت «آمنة» بنت العاشرة الضحية الأخيرة في الظهور كجرح اجتماعي بدأ ورمه على السطح من دون أن يكون له حل فاصل يترك للأجساد البريئة حق الاستمتاع بالطفولة ويكفيها معاناة اغتصاب أجسادها في سن مبكرة، تضطر «آمنة» أن تغادر المقعد الدراسي في الصف الخامس الابتدائي إلى بيت الزوجية ذلك لأن أباها مصر على التزويج فيما أمها تمهد لها الطريق القاسي حين تقنعها ولو لزمن ضئيل بأن العريس القادم سيأخذها إلى البقالة دائماً وهنا يختفي البكاء. بحثت في دهاليزنا الاجتماعية عن مبرر وحيد مقنع لتزويج الأطفال فجمعت الفقر والجهل والأمية وقلة الوازع الديني والمصالح الاجتماعية والعادات والتقاليد الاجتماعية وكلها في متناول اليدين ومبررات فاضحة، إلا إذا استثنينا الفقر كعامل مختلف فكيف يرضى أب عاقل بأن يبيع ابنته بثمن بخس، «آمنة» ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في هذا المسلسل المختفي تحت وطأة الأسباب السابقة والفارق بين الزوجين ربما يصبح مضاعفاً ومخيفاً حد البكاء المر على المستقبل، ولكن لن نعدم تشريعاً يجرم تزويج من لا تزال ترى في فسحة المدرسة فرحة مختلفة، أو تنام بأحضان أمها أن ألمّ بها شيء، ليس مستحيلاً أن نلوم المأذونين والمحاكم في حال تزويج أطفال يبكون على فقدان الألعاب، ويبتسمون حين نمنحهم الحلوى. مخجل أن يأتي المؤيدون لزواج القصر بالمقارنة بين زواج عائشة رضي الله عنها بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي في التاسعة ويتناسون أن والدها لم يزوجها إلا لأنه يعلم تماماً من أنه إن أراد أن يزوجها فلن يجد أفضل من تعامل وأخلاقيات الرسول الكريم، وهل يوجد أحد في هذا الزمان بمثل تعامل الرسول العظيم، هنا بالضبط تنعدم المقارنة لعدم تطابق الشروط والمناخ وتكبر مساحة الخجل حين نقارن ونختار من السيرة النبوية ما يتطابق مع مزاجنا ورغباتنا ويبرر اندفاعاتنا، القضية بالعقل والمنطق والرحمة والإنسانية تحتاج إلى رؤية شرعية عميقة تتوافق مع الزمان والمكان، والأمر برمته يتطلب قراءة اجتماعية خالصة من الرغبات والطموحات مع النظر للأبعاد النفسية والطبية ذات العلاقة حتى لا نصل لأسر قادمة تدمن البكاء، أو تقف في منتصف الطريق لأن قدراتها أقل من مسافة السباق، بقي أن أقول أن «زواج القصر» القضية الوحيدة التي نعكس فيها القاعدة الشرعية «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ونحن الذين نمارس المرونة مع القواعد الشرعية فقط متى ما تطابقت مع لغة الرغبات. علي القاسمي