محمد فتحي، أحمد سالم، بابا شارو، صفية المهندس، أمال فهمي، أحمد سعيد، جلال معوض... وغيرهم، أسماء إذاعية لامعة بَنَت صرح الإذاعة المصرية - التي أطفأت هذا العام شمعتها ال76 - حجراً تلو آخر، في وقت كانت الإذاعة مصدر الأخبار ووسيلة الترفيه الوحيدة للمواطن المصري إلى أن خلفها التلفزيون بعد 30 سنة من الانفراد بالساحة. «هنا القاهرة». بهذه المقولة أعلن الإذاعي أحمد سالم في 31 أيار (مايو) 1934، من مبنى صغير في منطقة وسط القاهرة، مولد الإذاعة المصرية التي تعد أول إذاعة تبث باللغة العربية من الوطن العربي. ففي 21 تموز (يوليو) 1932، قررت الحكومة المصرية إنشاء إذاعة حكومية مع إلغاء كل الإذاعات الأهلية التي نشرت الفوضى عبر بث مواد إذاعية بعضها غير أخلاقي كالترويج للمخدرات والبعض الآخر اتسم بالتفاهة كمغازلة صاحب «راديو مغازين ايجيبسيان» لصديقته! وتولت شركة ماركوني البريطانية الإدارة، لتكون وكيلاً عن الحكومة المصرية لمدة عشر سنوات. وفي سنة 1947 بدأت أولى خطوات تمصير الإذاعة بجعلها هيئة مصرية تابعة للحكومة المصرية تشرف عليها وزارة الشؤون الاجتماعية. وقف خلف هذا الكيان الإعلامي العملاق شباب متحمس كانت الموهبة والإصرار على النجاح أحد أسلحته في وقت لم تكن كليات الإعلام أبصرت النور. ارتبط المواطن المصري خصوصاً، والعربي عموماً، ببرامج الإذاعة التي اتسمت وقتها بالتجديد والتنويع ونشر الثقافة واكتشاف المواهب، فضلاً عن إيجاد ترابط بين الإذاعة والمواطن العادي من خلال نزول ميكرفون الإذاعة إلى الشارع المصري. وتعد برامج «جرب حظك» و «رأي الشعب» و «على الناصية» و «عشرون سؤالاً» و «من شرفات التاريخ» و «لو كنت مكاني» و «ساعة لقلبك» هي الأبرز في تاريخ الإذاعة منذ نشأتها حتى اليوم. ومن خلال شبكة «صوت العرب»، التف العرب حول الإذاعة المصرية حيث كان التأييد والمؤازرة للشعوب العربية التي تقع تحت نير الاستعمار عبر البرامج الموجهة إليهم. كما يزخر أرشيف الإذاعة بمسلسلات وبرامج إذاعية أخرى لا مثيل لها في العالم العربي. تولى مسؤولية الإذاعة حتى اليوم سبعة عشر رئيساً، أبرزهم «أبو الإذاعة» محمد فتحي، ومحمد سعيد وأحمد سالم وبابا شارو وصفية المهندس (أول مذيعة إذاعية في العالم العربي وأول رئيسة للإذاعة المصرية بعد 14 سنة من انطلاقها) وعمر بطيشة. وطوال العقود السبعة الماضية، قدمت الإذاعة عبر أثيرها خلال عصرها الذهبي، في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته وستيناته، أعلام الفكر والثقافة والفن في مصر والعالم العربي، مثل أم كلثوم وعبدالوهاب ونجاة علي ومحمد حسين هيكل وأحمد رامي ومي زيادة وفكري أباظة وعباس العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني واحمد أمين، والشعراء احمد شوقي وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري. و في عام 1953 احتضنت الإذاعة الرواية المسرحية عبر نقل رواية «كشكش بيه» لفرقة الريحاني، فضلاً عن نقل حفلات الأوبرا بداية عام 1942 كأوبرا ملك وأوريت سفينة الغجر لبيرم التونسي. وفي عام 1947، بدأت الإذاعة بإلقاء الضوء على مجريات الأحداث السياسية في العالم، إذ نقلت جلسات مجلس الأمن في سبتمبر من العام نفسه وترجمتها إلى العربية مع تفاصيل رحلة عودة النقراشي باشا من مجلس الأمن. وبرز دور الإذاعة مع نكبة 1948 عبر بث الأغاني والحفلات الوطنية التي تبث الحماسة والمثابرة في نفس المواطن في منزله والجنود في ميدان القتال. وبعد ثورة 1952، اتخذ رجال الثورة الإذاعة وسيلة لتعريف الشعب المصري والعربي بمبادئ الثورة وإبراز مفهوم القومية العربية ومساعدة الشعوب العربية المستعمرة. وعلى رغم قيام الإذاعة المصرية في بداية إرسالها على ثلاثة أهداف، هي: الإعلان والتثقيف والترفيه، إلا أنها عانت خلال السنوات العشرين الماضية من عزوف غالبية المستمعين في ظل تراجع المستوى الإنتاجي للبرامج فنياً ومالياً، مقارنة بغيرها من الإذاعات في مصر والعالم العربي. ويعزو البعض ذلك إلى استحواذ إذاعة «نجوم أف أم» الخاصة على عقول المستمع المصري وميوله، خصوصاً الشريحة الأكبر منه وهم الشباب، عبر ما تقدمه من أغانٍ وبرامج شبابية خفيفة أو دراما إذاعية ذات إيقاع سريع وهادف يقف خلفه فريق عمل من العمر ذاته تقريباً، الأمر الذي ينقص الإذاعة المصرية على رغم ما تحمله من مضمون ثقافي وفني واجتماعي. في المقابل، يلقي آخرون المسؤولية على كاهل انتشار الفضائيات والإعلام الالكتروني الذي سحب البساط من تحت أقدام الأثير الهوائي في غالبية بلدان العالم، وليس مصر فقط. وعلى رغم ذلك، تعد الإذاعة المصرية الخيار الأول لشريحة من الجمهور، غالبيتهم من المغتربين وكبار السن وقائدي السيارات. وتعتبر «إذاعة القرآن الكريم» أكثر شبكات الإذاعة المصرية استماعاً لما تبثه من تلاوات قرآنية عبقة بأصوات كبار المقرئين، كالشيخ عبدالباسط عبدالصمد والمنشاوي والحصري... وسواهم، إلا أنها تنتهج خطاباً دينياً تقليدياً يفتقد إلى الجاذبية والحداثة، فضلاً عن برامج أكل الزمن على نهجها الإعلامي وشرب، وهذا ما لا يستقطب الشباب المسلم المتطلع إلى خطاب ديني يتماشى مع متطلبات العصر لغوياً وفكرياً بما لا يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي. فهل ستؤتي خطة التطوير التي تتبناها وزارة الإعلام المصرية بين فترة وأخرى لقطاعي الإذاعة والتلفزيون ثمارها، وذلك من خلال تطويرالاستوديوات وإنشاء إذاعات جديدة كإذاعة «راديو مصر»... «ولا مفيش فايدة»؟!