تمنحك بروكسيل شعوراً بالكآبة. لم تفق من الصدمة بعد. تلملم جروحها لكن كمدينة مغدورة. لم تأتها الطعنات من الخارج. جاءتها من بين ضلوعها. من شبان منحت أهاليهم سقوفاً ومساعدات اجتماعية. من شبان أعطتهم جنسيتها وفرص التعلم ولم تطالبهم بالاستقالة من جذور أجدادهم. عاملتهم على غرار ما تفعل مع المقيمين على أرضها منذ مئات السنين. تمنحك بروكسيل شعوراً بالكآبة. أزال عمال التنظيفات بقع الدم من المطار ومترو الأنفاق. لكن رائحة الدم لم تغادر. رائحة الطعنات المدوية تقيم طويلاً بعد جمع الأشلاء وإقامة البقع. تذكّرت الرائحة ذاتها حين وقفت مع الفرنسيين الذين توافدوا إلى أمام مسرح باتاكلان في باريس. ما يربط بين مذبحتَي العاصمتين هو أن غالبية المنفذين ينتمون إلى حي مولنبيك أو أقاموا فيه. قلت أذهب إلى مولنبيك مستخدماً قطار الأنفاق. لم يكن عدد الركاب كبيراً. ولم تستطع عيونهم إخفاء القلق. ينظرون إلى الصاعدين من الركاب. لا يحبّون مجاورة من يحمل حقيبة. دعك عزيزي القارئ من التصريحات الرسمية التي تتحدث عن فشل الإرهابيين. في عيون الركاب نقص فادح في الطمأنينة. يتنفسون الصعداء لدى نزولهم في المحطة الأخيرة. لم ينسوا بعد صور الجثث في محطة مالبيك. نقص في الطمأنينة. اكتشف البلجيكي العادي هشاشة بلاده ومؤسساتها. اكتشف الهشاشة الأوروبية. هذه الديموقراطيات ضعيفة أمام الانتحاريين. صحيح أن المدن تغسل آثار الجريمة وتطوي الصفحة وتعاود عيشها لكن الصحيح أيضاً هو أنه صار عليها أن تخاف من رجل يقيم في كهف في الرقة أو الموصل ويعثر على أوروبيين لسكب أحقاده على «الغرب الكافر». اكتشفت بلجيكا افتقارها إلى الحصانة الصلبة. وضعف التنسيق بين أجهزتها الأمنية. وقلّة معلوماتها عن الشبان الذين يصرّون على الالتحاق بالجنة في أول قطار. وجدت نفسها أمام أسئلة حاولت طويلاً تحاشيها. هل الغرب عاجز عن استيعاب المهاجرين المسلمين؟ ولماذا لا يخرج انتحاريون من صفوف الجاليات غير المسلمة؟ ولماذا يبدو الاعتدال في صفوف الجاليات الإسلامية ضعيفاً او متهماً؟ يكافح ابن الشرق الأوسط الرهيب للتسلل إلى أوروبا. يهرب من الظلم والظلام. من الفقر والاستبداد. من وحشة بلاده ووحشيّة نظامها. ثم يكتشف أنه وقع في عالم آخر يحتاج الانخراط فيه إلى معركة مع الذات والقناعات النهائية القاطعة. أول الجدران اللغة. وحتى حين يلمّ بها تبقى مصابة بلكنة تكشف أنه جاء من هناك. يتعين عليه الآن أن يغرف من قاموس آخر. تستفزّه سرعة العيش هنا وقواعده. يشعر أنه وحيد بعدما خسر طمأنينة العائلة الواسعة أو القبيلة. تستفزّه الأضواء وسقوط المحرّمات وتبادل القبل. ويحدث أن تستفزّه رؤية أماكن دينية لم يعتد رؤيتها حيث كان. في حي مولنبيك تحاول سارة تورين عضو البلدية عن حزب الخضر القيام بالمهمة التي أوكلت إليها وهي العناية بشؤون الشباب. تبدأ كلامها إلى «الحياة» بالقول إنها ليست يائسة على رغم قسوة ما حصل. تقول: «إذا يئست فهذا يعني أن أتوقف عن العمل. ليس المطلوب فقط الاستمرار بل بذل جهد أكبر وتوفير إمكانات أكبر. أعتقد بأن جهودنا أقنعت عدداً من الشبان بعدم التوجه إلى سورية». المسؤولة البلجيكية وأمين معلوف تعتبر تورين أن بلجيكا تدفع حالياً ثمن التأخر في سياسة الاستيعاب والاندماج. تلاحظ أن شبان مولنبيك «لا يثقون بالشرطة والمدرسة والمؤسسات والإعلام» ويراود بعضهم شعور بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. تلمح إلى «حذر متبادل». وترى أن العائلة والمدرسة لم يكونا على الموجة ذاتها في التعامل مع الشبان. تلفت إلى ضعف العلاقة بين العائلة وشبانها وبين العائلة والمجتمع وإلى ميل المهاجرين إلى قصر علاقاتهم مع من يشبهونهم في كل شيء. تتحدّث عن دور يلعبه أئمة ودعاة يعتنقون أفكاراً متشددة وغير واقعية. تعترف أن هذا الواقع وظهور حالات تشدّد في الجاليات الإسلامية أديا في المقابل إلى ظهور خوف من الإسلام لدى قسم من المواطنين الآخرين. وتضيف: «نعم هناك مشكلة الهوية. وكما يقول أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» فإن المهاجر يزداد تعلقاً بالجزء الذي يعتبره مهدداً من هويته». تقول تورين إن لدى المهاجرين غير المسلمين مشكلات أيضاً لكن البعد الديني غائب عنها. وتعتبر أن على أوروبا «أن تعترف أن الإسلام جزء مكون من ثقافتها وليس وافداً من الخارج». استوقفني الاستشهاد بالروائي اللبناني - الفرنسي أمين معلوف. يجب أن يسجل لهذا الرجل اهتمامه المبكر بخط التماس القائم بين الهويات خصوصاً في عصر العولمة والهجرات الكثيفة. أغلب الظن أن الصحافي لدى معلوف أرشد الروائي باكراً إلى خطورة وقوع الهويات في قبضة الآبار المسمومة. هجّرت الحرب اللبنانية معلوف من ملاعب طفولته وأرض أجداده. يجلس اليوم في الأكاديمية الفرنسية. في المكان الذي تسميه فرنسا «نادي الخالدين». النادي الذي ستواصل الاعتداد بمن تعاقبوا على مقاعده يوم ينسى الفرنسيون أسماء من تعاقبوا على قصر الإليزيه وكبار سياسييها وجنرالاتها. ما قصدته تورين هو قول معلوف: «غالباً ما ينزع المرء إلى التماهي مع أكثر انتماءاته تعرضاً للتجريح. وحين لا يقوى على الدفاع عن نفسه أحياناً، يخفي هذا الانتماء الذي يبقى متوارياً في أعماقه، قابعاً في الظل، ينتظر ساعة الانتقام». يقول معلوف أيضاً: «هل أنا نصف فرنسي، وبالتالي، نصف لبناني؟ لا أبداً. فالهوية لا تتجزأ، ولا تتوزع مناصفة أو مثالثة، ولا تصنف في خانات محددة ومنفصلة عن بعضها بعضاً. وأنا لا أملك هويات متعددة بل هوية واحدة مؤلفة من العناصر التي صنعتها وفقاً لجرعة خاصة لا تتطابق مطلقاً بين شخص وآخر». في مولنبيك تسأل شاباً ولد في الحي وتعلّم فيه ويحمل الجنسية البلجيكية هل أنت مغربي أم بلجيكي؟ ويرد: «لا أريد أن أكذب عليك أنا مغربي أولاً وأحمل الجنسية البلجيكية». وإذا حاول شاب الرد بعبارات مبهمة يمكنك أن تستدرجه إلى كشف أوراقه. تسأله مع من تقف إذا لعب فريق بلجيكا لكرة القدم ضد فريق المغرب فتلتمع عيناه ويردّ بلا تردّد :»مع فريق المغرب». هل هو الخوف من الذوبان ما يجعل المهاجر يتعلّق بالبلاد التي تخلى عنها وتخلت عنه. يقول معلوف: «حيث يشعر الناس بأن إيمانهم مهدد، يختصر الانتماء الديني هويتهم بكاملها. أما اإذا كان الخطر يحدق بلغتهم الأم، او مجموعتهم الإتنية، فهم يقاتلون بضراوة أخوانهم في الدين. إن الأتراك والأكراد مسلمون على حد سواء ولكنهم لا يتكلمون اللغة ذاتها، فهل يكون نزاعهم أقل دموية؟ والهوتو والتوتسي كاثوليكيون ويتحدثون اللغة نفسها، وهل شكل ذلك رادعاً لهم لعدم التناحر والاقتتال؟ والتشيكيون والسلوفاكيون كاثوليكيون بدورهم ، فهل ساهم ذلك في تعزيز عيشهم المشترك؟». لم تصطدم جذور معلوف بجذور المدينة التي هاجر إليها. التقت الجذور في هوية مركبة وصارت فرصة إغناء. اصطدمت جذور صلاح عبد السلام وعبد الحميد أباعود بالجذور الأوروبية لبلجيكا فسلكا طريق النحر والانتحار والأحزمة الناسفة. لماذا هذا الفارق بين الرحلتين؟ هل جاء معلوف من نهر صغير لا يعتبر الغرب تهديداً وجودياً لإرثه وهويته؟ وهل كان الأمر مختلفاً لو أنه جاء من بحر واسع يحمل في عقله من الأقفال أكثر مما يحمل من المفاتيح؟ وهل سر النجاح قبولك بحق الآخر أن يكون مختلفاً وأن لا شيء يجيز لك اغتيال لونه أو اغتياله؟ أوقعت انفجارات بروكسيل سكان حي مولنبيك في القلق والإثارة. لم يتخوّف أحد من اجتياح الحي أو قصفه أو اعتقالات جماعية. هذه بروكسيل وليست عاصمة من العالم الثالث. أذهلهم أن هؤلاء الشبان الذين كبروا بينهم تحولوا فجأة نجوماً تجتاح صورهم الشاشات وتكتم أنفاس أجهزة الاستخبارات. جلسوا أمام الشاشات وراحوا يتبادلون الروايات. لا يقبلون التحدث باسمائهم لكنهم إذا اطمئنوا قليلاً يمكن أن يرووا ما يعرفون أو بعضه. بصمات صلاح عبد السلام وظلاله ولد صلاح عبد السلام الذي يحمل الجنسية الفرنسية في بروكسيل في 15 ايلول (سبتمبر) 1989. كبر في مولنبيك. ارتبط ب «الدولة الإسلامية» وتورّط في هجمات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. استأجر السيارة التي استخدمها مهاجمو مسرح باتاكلان. أقل الانتحاريين الثلاثة إلى ستاد دو فرانس حيث انفجروا. قيل لاحقا إن صعوبات تقنية منعته من تفجير حزامه الناسف. فرّ من المكان ونجح رفيقان له جاءا من بروكسيل في إعادته إليها بعدما أوقفتهم دورية للشرطة الفرنسية لكنه لم يكن قد تحول مطلوباً في تلك اللحظة. كان شقيقه إبراهيم بين انتحاريي باريس وتردّد أنه أقلّه إلى الهدف بنفسه. بين 2009 و2011 عمل صلاح تقنياً في مستودع لشركة القطارات. لكن عقده ألغي بعدما اعتقتلته الشرطة وبسبب غيابه المتكرر عن العمل. وكان صلاح يتكتم حول سبب اعتقاله. تقول الشرطة إن صلاح عبد السلام شارك في نشاطات جرمية محدودة تماماً كصديقه عبد الحميد أباعود الذي يعتبر العقل المدبر لاعتداءات باريس والذي قتلته الشرطة الفرنسية بعد أيام من تلك الاعتداءات. ويتردد أن عبد السلام وأبا عود التقيا ايضاً في السجن. بعد ذلك أدار صلاح وشقيقه إبراهيم حانة في الحي. ويقول شبان إنه «كان يشرب ويرقص». لكن الشرطة أغلقت الحانة بعد شهور بعدما عثرت فيها على حبوب للهلوسة. لم تلاحظ صديقة صلاح السابقة أي ميول دينية متشددة لديه. وكانت تأمل بأن تتكلل علاقتهما بالزواج. في نهاية 2014 اقترح عليها أن ترافقه إلى سورية لكنها رفضت. وفي السنة التالية أدركت إنه بات على علاقة بشبكات الجهاديين. عاتبته ذات يوم لانقطاعه أحياناً عن الاتصال بها وغيابه من دون تفسير وكذلك على عدم اهتمامه بإيجاد عمل ثابت ودخل مضمون. وفوجئت به يتصل بها في اليوم التالي ليبلغها انه لم يعد لديه هاتف محمول. ادركت ان صلاح مأخوذ باشياء اخرى يعتبرها أكثر أهمية وإلحاحاً. ستزداد قصة صلاح عبد السلام غموضاً. في كانون الثاني (يناير) 2015 حاول شقيقه إراهيم الدخول إلى سورية لكن السلطات التركية اوقفته وأعادته الى بلجيكا. استجوبت الشرطة البلجيكية الشقيقين ثم أفرجت عنهما على رغم قناعتها بأنهما دخلا في أجواء المتشددين. في الشهور التالية سيلمح ظل صلاح عبد السلام في إطاليا واليونان وتركيا والحدود النمسوية - الهنغارية. وسيلتقي في هذه الرحلات بعض من سترد اسماؤهم لاحقاً في انفجارات باريسوبروكسيل. حين أفاقت الشرطة الفرنسية من هول الصدمة لتسأل عن صلاح عبد السلام كان الرجل صار في بلجيكا. بدأت المطاردة الطويلة. راجت روايات عدة عن توجهه إلى هولندة أو ألمانيا. وتوقّع كثيرون أن يكون يحاول شق طريقه إلى سورية ليعيش بعيداً من متناول الأجهزة الغربية. خدعهم صلاح وأقام حيث لم يتوقعوا أبداً. أقام في حي مولنبيك ذاته وعلى بعد مئات الأمتار من شقته الواقعة قبالة مقر البلدية. نظمت الشرطة حملة مداهمات واعتقالات. لكن صلاح بقي متخفياً مستفيداً من مساعدة أقارب وأصدقاء. في 18 آذار (مارس) وقع في قبضة الشرطة بعد إصابته بجرح طفيف في رجله. صيد ثمين لكن حفل الابتهاج سيتعكر سريعاً فبعد اربعة أيام فقط ستغرق بروكسيل بمطارها وقطار الأنفاق فيها في الدم. دم الانتحاريين ودم ضحاياهم الأبرياء. تسمع في حي مولنبيك أن بروكسيل لم تكن مستهدفة اصلاً. وأن المداهمات اشعرت الشبكة بأنها اكتشفت ولم يبق امامها غير ان تتحرك فهاجمت اهدافاً في بروكسيل في حين كان غرضها السابق شن هجمات جديدة في فرنسا التي يفترض ان تتسلم صلاح عبد السلام في الأسابيع المقبلة. صحيح ان نحو 500 بلجيكي غادروا للمشاركة في القتال في سورية، 80 منهم من حي مولنبيك. لكن الآضواء تركزت لا على من قتلوا هناك أو من عادوا بل على نجوم الوليمتين الدمويتين في باريسوبروكسيل. أباعود يلعب الكرة برأس مقطوع ولد عبدالحميد أباعود في 8 نيسان (أبريل) 1987 في إندرلخت. بلجيكي من أصل مغاربي جاء من عائلة مرتاحة مالياً وقد حاول والده توفير تعليم جيد له. أمضى سنوات مراهقته في حي مولنبيك وظهرت عليه باكراً علامات الجنوح. التحق في 2013 ب «الدولة الإسلامية» في سورية وسرعان ما تحول إلى أشهر البلجيكيين هناك. تحدثت الأنباء عن علاقته بمحاولات الاعتداء في إطلاق النار على الزبائن في المقاهي والمطاعم. نجح في مغادرة مسرح الجريمة واختفى لكن الشرطة قتلته في 18 تشرين الثاني أي بعد خمسة أيام من الاعتداءات حين داهمت شقة في سان دوني. أرسله والده في 1999 إلى مدرسة كاثوليكية معروفة في أوكل حيث أمضى سنة واحدة. يقول احد رفاقه انه كان «وقحاً وقليل التهذيب ولا يحفل بمشاعر الآخرين». سلك ابا عود طريق الجنوح واحتقار القوانين. بدءاً من 2002 بدأت متاعبه مع الشرطة وتعددت اقاماته في السجن ولو لمدد قصيرة بين 2006 و2012. يقول والده عمر ابا عود إنه بدءا من 2012 أطلق لحيته وظهرت في سلوكه إمارات التشدد. كانت ويلات الحرب السورية المغناطيس الذي اجتذب اباعود. غادر الى سورية في 2013 مع ستة من رفاقه. ستتصاعد شهرته لاحقاً حين ظهر في شريط يقود شاحنة محملة بالجثث. سيظهر في شريط آخر يلعب كرة القدم لكن مستخدماً راساً بشرياً مقطوعاً. سيشيع اسم أبا عود أيضاً حين قرر اصطحاب شقيقه يونس (13 سنة) الى «أرض الجهاد» في سورية. عبثاً حاول والده مناشدته بإقناع شقيقه الأصغر بالعودة إلى بلجيكا لكن الأخير استعذب على ما يبدو لقب «أصغر المجاهدين سناً». قبل ايام أطل يونس المقيم في سورية. قال انه سيعود لكي ينتقم لشقيقه الذي قتل على ايدي رجال الأمن في اوروبا. وفي حي مولنبيك حكايات كثيرة عن سيدة ساندت اباعود وأخرى خانته وأرشدت الى مقر تخفيه. وكذلك عن مساعدة مكنت صلاح عبد السلام من التخفي طويلاً وعن وشاية انهت رحلة فراره. محاولة لفهم ما يجري تجمع الروايات ثم تحاول ان تفهم. في احد مقاهي الحي التقت «الحياة» يونس لمغاري وهو باحث في علم الاجتماع جاء هو الآخر من المغرب. عن تحول شاب في مولنبيك إلى متطرف او انتحاري يقول: «الحقيقة ان مشكلة الهوية تطرح نفسها على الجيل الثاني والثالث. يجد الشاب ذاته في عالم ليس سهلاً. هناك فوارق كبيرة في بلجيكا بين مدارس النخبة والمدارس الجيدة ومدارس الغيتو او احياء المهاجرين الشعبية. المدارس المكتظة لا تعطي الشاب فرصة الانطلاق فيلجأ الى اعمال محدودة الدخل وبينهم من يلجأ الى تحصيل المال بوسائل غير مشروعة وقد ينزلق بعضهم الى عالم الجريمة. نسبة البطالة في الأحياء الفقيرة تصل الى خمسين في المئة لدى الشباب. قضية الفقر حقيقية. وهناك في بروكسيل ما يسمى هلال الفقر. اي كثافة سكانية عالية يرافقها فقر وبطالة مرتفعة. هذه الوقائع تدفع الشاب نحو التذمر وتدفعه احياناً الى اليأس». ويضيف: «لا يجد الشاب حلاً لهذه المشكلات ثم تضاف إليها مسألة الهوية. يسمع الشاب ان الإسلام هو الحل. إذا كان الشاب آتياً ايضاً من عائلة ضعيفة الروابط ويشعر بانسداد الأفق والقطيعة مع ثقافة البلد الذي هاجر اليه يمكن ان يتحول إلى فريسة لأفكار التطرف او التكفير ويرى فيها خلاصاً. طبعاً يأتي من يقول ان الغرب يضطهد المسلمين ويقتلهم في بلادهم ويعطي مثالاً الغارات في سورية والعراق. تردد كثيراً في الحي الكلام عن بشار (الأسد) كطاغوت يجب ان يقاتل. تردد ايضاً ان الشيعة ضالعون في قتل السنة في العراق وسورية وبالتالي يجب محاربتهم». يلاحظ ان المساجد ليست مسؤولة عن التطرف وتجنيد الجهاديين. الشكوك تتركز على قاعات للصلاة غير معترف بها يمكن ان تسمح للمتطرفين ببث افكارهم. ومن تلك الشوارع التي تضم هذه القاعات ذهب الشبان الى سورية. «ذهب نحو خمسمئة شاب الى سورية عاد منهم ما يقارب المئة وهم قيد المتابعة من الشرطة. مشكلة هؤلاء الشبان انهم يبدأون البحث عن معنى لحياتهم ثم يأتي من يعطيهم حلاً جاهزاً ويغريهم بالجنة وأشياء اخرى». سألته ان كان يعتقد بأن المهاجر المسلم يجد صعوبة في تقبل القيم الغربية فأجاب: «اذا كانت هذه القيم تعني تنازله عن قيمه الدينية فهناك مشكلة بالتأكيد». وعن مسألة المرأة وحق الاختلاف وقبول الآخر أجاب: «علينا ان نعترف ان الشباب المسلم لا يزال متخلفاً في بعض هذه المجالات ويجب بذل جهود كبيرة فيها. الأمر يأتي من ادبياتنا التي تربينا عليها ونظرتها الى غير المسلم. الأمر يحتاج الى جهد جبار». يعتقد يونس بأن مشكلة المسلمين في بلجيكا وأوروبا ستأخذ وقتاً قبل حلها. يرى ان اعتداءات مثل التي وقعت في باريس او بروكسيل تشكل هدية لليمين المتطرف. يلاحظ ان قسماً من الرأي العام بات يشعر بالخوف من تكاثر المسلمين على الأرض الأوروبية وهناك اصوات متطرفة باتت تتحدث عن غزو وتعتبر ان الحل يكمن في اعادة المهاجرين الى بلدانهم الأصلية. يعتقد ايضاً بأن الحل يستلزم جهوداً من الجانبين ومحاولات اعمق للفهم والتقارب. لا يرى يونس سياسة رسمية للتمييز ضد المسلمين لكنه يلاحظ نوعاً من التمييز يكشفه عدم وجود نسبة مرتفعة منهم في المواقع العليا في المؤسسات. يلاحظ ان مناخات التوتر قد تدفع اليمين المتطرف الى التسبب بمضايقات ضد افراد او الاعتداء عليهم لكن تراجع التوتر يقلّص مثل هذه الممارسات. في طريق العودة من مولنبيك الى الفندق تسترجع معاني بعض ما سمعت. ليس بسيطاً على الإطلاق ان يتسلل «داعش» الى بروكسيل ويؤسس فيها عشاً للانتحاريين. ابناء ابو بكر البغدادي يقيمون هنا على مسافة كيلومترات من مقري الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. نجح البغدادي في ما تعذر على اسامة بن لادن تحقيقه. اختراق الجاليات العربية والإسلامية في الغرب وتحويل شبان مهاجرين أحزمة ناسفة وعبوات موقوتة. تسأل نفسك عما اذا كان ما يجري هو حرب عالمية ثالثة تخاض بالانتحاريين بدلاً من الجيوش والدبابات. حرب هدفها ليس فقط اغتيال صورة الغرب بل ايضاً استنزاف اقتصاده. تضرب انفجارات الانتحاريين صورة المدن المستقرة الآمنة. تلحق خسائر باقتصاد البلد المستهدف وتقنع السياح بالابتعاد عنه على الأقل لفترة. تضطر الدولة الى مضاعفة الإنفاق على الأجهزة الأمنية وعمليات الرقابة. عليها من الآن فصاعداً ان تخشى حقيبة متروكة في المطار او رجلاً ملتحياً صارم الملامح في القطار. فكر «داعش» يناقض الأساس الذي قامت عليه بلجيكا التي يبلغ عدد سكانها 11 مليوناً بينهم أقل من نصف مليون مسلم. دولة فيديرالية تنام على حساسيات وحزازات. لكن أهلها اتفقوا على أقاليم وحكومات وحلّ الخلافات بالحوار والانتخابات. هذا يتكلم الفلمنكية وذاك الفرنسية وثالث الألمانية. يجمعهم العرش ومقر الاتحاد الأوروبي وفريق كرة القدم. أعان الله المهاجر العادي المسالم في حي مولنبيك. أو في باريس أو برمنغهام أو امستردام. لا قدرة له على كبح هؤلاء الشبان الذين يجتذبهم التطرّف والإرهاب. وعليه احياناً أن يدفع الثمن نتيجة تزايد حذر السكان الأصليين من المهاجرين. ربما تشير الأحداث إلى فشل سياسات الاندماج والاستيعاب. الأكيد انها تشير الى هذا الفشل الصارخ في بلداننا الأصلية التي تتقلب على نار المتطرّفين والفاسدين. من الظلم دمغ المهاجرين بالتطرّف بفعل خروج انتحاريين من صفوفهم. بينهم كثيرون راغبون في التعايش والاندماج والمصالحة بين الجذور ومستلزمات العيش في البلد الجديد. المأساة تكمن في ضعف الاعتدال والمعتدلين في بلداننا قبل ان نتحدث عن الجاليات. لم تكن الرحلة مجرد موعد مع حكايات الانتحاريين. في منزل صديق استمعت الى آراء عدد من السفراء العرب وأوروبيين يعملون في المفوضية الأوروبية. قالوا إن ذاكرة النزاعات بين الدول المنضوية في الاتحاد الأوروبي أثقل بكثير من ذاكرة النزاعات بين الدول العربية. لكنهم لاحظوا ان الأوروبيين اختاروا لغة الحوار للسير نحو المستقبل في حين نتصرّف نحن كأننا عبيد التاريخ ومراراته.