بعد فترة كمون وأشهر من السكون، عاودوا الظهور وعادوا إلى الجمهور. ولا تكاد تمر ساعة أو يمضي برنامج أو تغرد تغريدة أو تُدون تدوينة، من دون إشارة الى أحدهم أو بعضهم أو كلهم. صحيح أن البعض يعتبرهم نماذج تحتذى وقدوات يعتد بها، في حين أن البعض الآخر يخوّنهم ويشكك فيهم ولا ينظر إلى مواقفهم إلا من باب التندر أو على سبيل التفكر، إلا أن ذلك كله لا يغير من واقع الحال. حال المعارضة المصرية الراهنة، أو على وجه الدقة حال من يحسبهم الشعب قلب المعارضة المصرية الحالية، يعاود التأكيد ويجدد الترسيخ في كون الأصوات المعارضة والشخصيات المناوئة والأحزاب المتنافسة على الساحة السياسية كيانات موسمية، في غالبيتها تصاعدية وقت الأزمات الطارئة، تنازلية إبان الاحتياجات والمشكلات والمعضلات المستمرة، حيث تهرب من التفاصيل الصغيرة والتشابكات الكثيرة في حياة المصريين اليومية. ويومياً على مدار الأسبوع الماضي، يجتهد شعب «فايسبوك» ويثابر مجتمع «تويتر» وتداوم تجمعات المقاهي الثقافية والصالونات النقاشية والحلقات السفسطائية الأهلية، على مناقشة ومجادلة ومساجلة آراء ومواقف وتصريحات وتغريدات وتدوينات حفنة من الشخصيات العامة المصرية التي ذاع صيتها في أشهر ما قبل الربيع والسنوات الخمس التي تلته. هذه الشخصيات ظلت حبيسة الدوائر المثقفة والمجتمعات الضالعة في السياسة والمهتمة بالشأن العام، ثم خرجت منها تدريجياً مع بدء هبوب الرياح الثورية ونفضت عن نفسها غبار الشهرة الضيّقة والانتشار الحكر على طبقات بعينها، وأضحت رموزاً ثورية وأيقونات التغيير. لكن سبحان مغيّر الأحوال ومثبّت الأوضاع، فمع التقلبات العنيفة والتحولات العميقة، أعاد المصريون ترتيب أيقوناتهم وتفضيل رموزهم. وتحوّلت شخصيات الأمس الوطنية إلى شخصيات غير مرغوب فيها لدى فريق أو مشكوك في وطنيتها لدى فريق آخر أو يُفضل عدم سماع ما تقول أو قراءة ما تكتب لأن مواقفها صارت مغايرة لتوجهات فريق ثالث. وحيث أن ساحة المعارضة التي كان يتوقع بناؤها وينتظر تشييدها خلال العامين الماضيين ظلت خاوية، فقد وجد المصريون أنفسهم يعتبرون هذه الشخصيات في قلب المعارضة حتى وإن كانت موسمية الظهور ووقتية الانتشار. انتشرت تصريحات وتدوينات وتغريدات هذه الكتلة - التي لا يمكن اعتبارها وحدة واحدة، بل كتلات متفاوتة متراوحة حتى وإن بدت متناغمة التوجهات - انتشاراً كبيراً في الأيام الماضية، وذلك تزامناً مع عدد من القضايا الجدلية والمسائل السجالية بدءاً بقضية الطالب الإيطالي المقتول في مصر خوليو ريجيني، مروراً بجزيرتي تيران وصنافير، وانتهاءً بأزمة ارتفاع الدولار وتبعاتها. وتناوب «دكاترة» المعارضة على الساحة تصريحاً وتغريداً وتدويناً، وأقبل المصريون على هذا المنتج المتسارع المتواتر إقبالاً منقطع النظير بين مهلل مؤيد، ومندّد معارض. فمن آراء متداولة للدكتور محمد البرادعي، إلى تغريدات ساخرة للدكتور باسم يوسف، إلى مواقف معلنة للدكتور علاء الأسواني، إلى أعمدة منشورة للدكتور عمرو حمزاوي، يدور المصريون في فلك مجتمع المعارضة المخملي الموسمي، حيث كثير من الهبد والرزع وقليل من الفكر والتعقل. «هل يعقل أن نعتبر تغريدة هنا أو تدوينة هناك دليلاً دامغاً يثبت صحة قضية ما أو ينفيها؟ وكيف تحولت الآراء والأفكار من مواقف شخصية وميول فردية إلى معلومات مؤكدة ووقائع لا ريب فيها؟ ولماذا لا يظهر هؤلاء إلا في مواسم بعينها وأوقات من دون غيرها؟»، أسئلة طرحها مواطن وصف نفسه بأنه «غير مسيس» في مداخلة هاتفية إذاعية تحولت إلى منصة لإطلاق الصواريخ المشككة في تلك الشخصيات على اختلافها، كما انقلبت ساحة مناوئة للنظام الحالي وقاعدة مؤيديه العريضة على أساس أن كل ما يصدر عن هذه الشخصيات ما هو إلا «خميرة» ثورية شريفة و «عجينة» تغيير نحو الأفضل غير مشكوك فيها. لكن الشك الأكبر والريب الأعظم حاما حول مفهوم المعارضة ومواصفاتها ومعاييرها الحالية وقواعدها الشعبية التي لا تقل غرابة عنها. فالملاحظ، أن هذه المعارضة لا تسطع شمسها أو يبزغ نجمها إلا موسمياً، وذلك للتعليق على خبر ساخن هنا أو قضية جدلية هناك. وما أن يبرد الخبر أو تفتر القضية حتى يختفي كل منها عن الساحة استعداداً لكارثة مقبلة وأزمة طارئة، ليدلو بدلوه وينزل بثقله تغريداً أو تدويناً أو تصريحاً. تصريحات كثيرة ومتلاحقة يدلو بها كذلك هذه الآونة، المرشح الرئاسي السابق السيد حمدين صباحي، وهو الذي يصنفه المصريون حالياً ضمن ساحة المعارضة. وبين آراء يدلي بها في شأن قضية ريجيني وتوكيدات يصرّح بها حول جزيرتي تيران وصنافير، لم ينسَ أن يؤكد أنه لن يخوص مضمار الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة. وفي السياق نفسه، عاد المرشح الرئاسي السابق الفريق أحمد شفيق، إلى الساحة أيضاً، لكن عبر «بيان إلى الشعب» أخذ نصيبه هو الآخر من التغريد والتدوين والتعليق والتحليل، حيث معارضة من نوع آخر وأسئلة مطروحة على ساحتي الشعب والحكم حول ما تم اتخاذه أخيراً من قرارات. قرارات رموز المعارضة غير الرسمية والشخصيات المحسوبة على ساحة الانتقادات الموسمية، تشغل المصريين كثيراً هذه الأيام. وبينما الفريقان الرئيسيان منشغلان باعتبار كل ما يصدر عن هذه الشخصيات إما خيراً مطلقاً أو شراً مسبباً، خرج فريق ثالث - لطالما اعتبر أبطال هذه الساحة الموسمية والمنصة غير الرسمية «أعداء الوطن» - ليستشهد برأي أدلى به البرادعي أو عمود كتبه حمزاوي اتخذا فيهما موقفاً بدا أنه مؤيد للنظام أو معضد لقرار رسمي – فرحاً مستبشراً ب «انحياز رموز من المعارضة الى الدولة المصرية». وسواء اعتبر البعض ساحة المعارضة العجيبة الفريدة حفنة من الانتهازيين الموسميين أو مجموعة من الوطنيين الشرفاء أو جماعة متأرجحة بين المعارضة المرفوضة والمعارضة المقبولة، تبقى ساحة المعارضة في مصر موسمية غير نظامية، منزوعة الأحزاب، خالية من أساسات البناء، عرضة للقيل والقال، وذلك وفق المزاج العام وأجواء الأزمات.