«رياح السماء» التي هبّت على السفينة التركية «مرمرة»، كانت هدية من السماء إلى تركيا لتستكمل بناء استراتيجيتها في الشرق الأوسط. ولتقود حملة دولية واسعة لفك الحصار المضروب على غزة. وكانت لأيام خلت أطلقت مع البرازيل مبادرة في إطار معالجة الملف النووي الإيراني. لقد وفّر الهجوم الإسرائيلي الوحشي على «أسطول الحرية» فرصة نادرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لتحقيق جملة من الأهداف دفعة واحدة. وبات متوقعاً أن ينجز «الأسطول» ما كان يمكن أن تنجزه انتفاضة فلسطينية بدا أنها متعذرة لأسباب فلسطينية وغير فلسطينية. إن الخط التصاعدي للسياسة التركية الجديدة حيال إسرائيل بلغ نقطة الذروة. بدأ التصادم بين البلدين إثر الحرب التي شنت على غزة أواخر عام 2008 ومطلع عام 2009. يومها وقفت أنقرة موقفاً متشدداً. وظلت تردد إلى اليوم أنها لن تتغاضى حيال التعرض للحقوق الإنسانية للفسطينيين. ثم كان التأنيب الشديد الذي وجهه أردوغان في دافوس، خلال ندوة متلفزة، إلى الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز. ثم كان ما كان من أمر ما اعتبرته أنقرة استقبالاً غير لائق لسفيرها في تل أبيب في مكتب نائب وزير الخارجية الاسرائيلي داني أيالون. ويتماشى الموقف الغاضب والقاسي والجذري لتركيا من الهجوم الاسرائيلي، تماماً مع النهج الجديد في سياستها الخارجية. أي السعي إلى إقامة توازن بين عنصري الهوية التركية، الأوروبي والشرق أوسطي. وهو ما دفعها إلى الانخراط في عدد من الملفات من البلقان إلى أفغانستان مروراً بفلسطين والعراق. أولاً لتأكيد دورها لاعباً أساسياً في المنطقة. وثانياً لقطع الطريق على الاندفاعة الإيرانية. وثالثاً لتعزيز موقعها التفاوضي مع أوروبا في سعيها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. ورابعاً تقديم نفسها وسيطاً مقبولاً لحلحلة أزمات الاقليم، مستندة إلى إسلامية معتدلة ل «حزب العدالة والتنمية» قادرة على الحوار مع حركات وأحزاب متشددة. وقادرة بالتالي على دفعها إلى مواقع اللعبة الدولية وشروطها. وهكذا تحول خصوم اسرائيل أصدقاء لتركيا. من إيران إلى سورية، إلى «حماس» التي اعتبر أردوغان قبل يومين أنها «ليست إرهابية»، وهو وصف يطلقه عليها الأميركيون ومعظم الأوروبيين. من دون أن تجازف أنقرة بقطع العلاقات مع الدولة العبرية، لتظل أبواب تل أبيب مفتوحة أمامها، ومعها أبواب عواصم القرار التي لم تتخلَّ ولن تتخلى في النهاية عن الدولة العبرية وتفوقها العسكري. المشكلة أن حكومة اليمين الاسرائيلي لم تفهم الإشارات الكثيرة التي أطلقتها تركيا. كما لو أنها لم تقرأ التغيرات التي طرأت على المنطقة والعالم. لقد بدأت أنقرة باكراً في تبديل سياستها وعلاقاتها التجارية والعسكرية والأمنية مع إسرائيل، والتي فرضتها عليها الحرب الباردة كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي. والتي فرضها أيضاً الموقف العربي العام من القضية القبرصية. وتالياً الدعم الذي كانت تقدمه كل من سورية وإيران إلى حركات المعارضة الكردية، وأبرزها «حزب العمال الكردستاني». لكن التغيرات التي أعقبت سقوط المعسكر السوفياتي، والسياسة الداخلية التي قارب فيها «حزب العدالة والتنمية» المسألة الكردية، وتنامي العلاقات مع سورية، ثم مع إيران، وأخيراً مع العراق، وضعف قبضة العسكر على السياسة بسبب الشروط الأوروبية... كلها منحت أنقرة هامشاً أكبر للتحرك وتعديل سياستها. ولا جديد في القول إن تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة، حاملاً لواء القضية الفلسطينية، حفزها أيضاً على الانخراط في السباق على استحواذ هذا اللواء. ساعدها في ذلك الارتياح الذي تلقاه من جبهتها الشرقية مع العراق وتنامي علاقاتها مع دمشق خصوصاً والعالم العربي عموماً. فيما كانت قبل ذلك لا تستطيع أن ترفع يدها ملوحة لإسرائيل ضد استخدامها القوة مع الفلسطينيين. لأن هذه كانت ترد بأن أنقرة تستخدم المنطق نفسه مع الأكراد! نجحت تركيا حتى الآن في استغلال الغطرسة الإسرائيلية حيث عجز كثيرون. وتقدمت على الطريق لتكريس نفسها ركناً أساسياً من أركان الشرق الأوسط، في الوقت الذي تسعى الولاياتالمتحدة والدول الكبرى إلى رسم معالم النظام الاقليمي، من أفغانستان إلى السودان مروراً بالعراق وفلسطين والخليج وإيران. ونجحت في الأزمة التي تديرها مع إسرائيل، في تبديل المواقف الدولية التي كانت ارتاحت إلى الحصار المضروب على غزة بما هو حصار على النفوذ الإيراني. وباتت مؤهلة، بعد هذا الزخم الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، لإدارة حوار مع «حماس»، بما يقربها من «الجهاد السلمي» ضد الاحتلال... الذي قد يحقق ما لا يمكن الصواريخ والأسلحة المهربة إلى القطاع أن تحققه. وفي رفض أردوغان وصف الحركة بأنها «إرهابية» دعوة صريحة للعالم إلى الاعتراف ب «حماس»... قد تتبعها دعوة هذه إلى المصالحة مع السلطة ومن ثم الانخراط في شروط المجتمع الدولي للتسوية. لا يمكن تركيا أن تذهب بعيداً في القضية الفلسطينية، أي أن تحقق ما يصبو إليه المتشددون في الجانب العربي. لا بد أن تمسك العصا من الوسط. لا يمكنها أن تقطع علاقاتها مع إسرائيل، أو أن تقف في صف الممانعة متجاهلة عرب الاعتدال الذين أحرجتهم. ومثل هذه الوسطية سيعطي حملتها لفك الحصار عن غزة مفاعيل ومضامين غير تلك التي تدعو إليها إيران والمتشددون. فبقدر ما عسكرت إيران «انتفاضة حماس» وعزلتها، كشف التحرك السلمي ل «مرمرة» عمق الوحشية الاسرائيلية ودمويتها. ودفع الدول الكبرى كلها بلا استثناء إلى البحث عن سبل تغيير هذا الواقع المؤلم. لذلك يجب ألا يغالي بعض المأخوذين بمواقف تركيا في التوقعات. يجب أن ينتظروا ليروا كيف ستهندس نتائج هذا التطور الجديد وهذه الأرجحية في الاقليم. لأنها تعرف جيداً أن لدورها في القضية الفلسطينية حدوداً، وأن أوراق التسوية تظل بمعظمها في يد الولاياتالمتحدة. ولا شيء يوحي بأن هذه الأوراق ذهبت إلى مكان آخر منذ أن أعلن الرئيس السادات أن معظم أوراق الحل بيد واشنطن. إن الحملة التركية - الدولية ستضاعف الضغوط على حكومة نتانياهو لتقديم التنازلات المطلوبة أميركياً ودولياً في المفاوضات مع السلطة. أي بمعنى آخر مساعدة مبادرة واشنطن الراعية للمفاوضات. وهو ما يناقض تماماً السياسة الإيرانية الداعية أصلاً إلى رفض التسوية السلمية برمتها. وهذا عنصر من عناصر اشتباك الجمهورية الاسلامية مع المجتمع الدولي والولاياتالمتحدة. وستكون قوى التشدد في الائتلاف الحاكم في اسرائيل أكثر ضعفاً في مقاومة زعيم «ليكود» إذا اضطر إلى مراعاة الضغوط واستجابة بعض الشروط. خصوصاً أن الدولة العبرية لا يمكنها في المدى الطويل أن تضع تركيا في صفوف الأعداء كما هي الحال مع إيران. ذلك أن مخاصمتها ستطيح أي سياسة عربية معتدلة حيال التسوية. وهذه تطرح إشكالية كبيرة ليس لتل أبيب وحدها بل لواشنطن. إن الأميركيين ينظرون إلى تركيا عنصر تواصل مهماً مع إيران في كثير من الملفات، في العراق خصوصاً وفي آسيا الوسطى عموماً. وستكون بعد الهجوم على «مرمرة» قناة تواصل مهم مع «حماس» والفصائل الفلسطينية المتشددة. وهم يعرفون أن تركيا ليست الجمهورية الاسلامية، ولا يمكنهم التعامل معها بمثل التعامل مع هذه. بل ينظرون إليها لاعباً أساسياً في إطار «الشرعية الدولية»، يمكنها موازنة الاندفاعة الايرانية وربما الحد من جموحها. ويعولون على قدرتها في تشجيع سورية على موازنة علاقاتها الاقليمية. كما يعرفون أهميتها بالنسبة إلى مصالحهم الاستراتيجية. ويعرفون حقاً ما تعامت عنه حكومة اليمين في إسرائيل. وهو أن تركيا كانت منذ قيام الدولة العبرية شريكاً اسلامياً كبيراً في ضمان أمن هذه الدولة... تماماً مثلما أبعدت معاهدة السلام مع مصر ومثلها معاهدة وادي عربة شبح الحرب العربية - الاسرائيلية الشاملة. يبقى أن لا حاجة إلى القول إن مواقف تركيا لم تكشف غياب الدور العربي فحسب، بقدر ما أكدت إيمان بعضهم بأن النظام العربي برمته لم يكن أصلاً قائماً، وهذا ما كشفه انهيار الحرب الباردة. كما أن أردوغان الذي كرس زعامته الشعبية الكاسحة في العالمين العربي والاسلامي، قد تساهم مواقفه في تعويم شعبيته التي بدأت تتآكل لمصلحة «حزب الشعب الجمهوري» الذي يتقدم منذ مدة استناداً إلى استطلاعات الرأي. خصوصاً أن زعيمه الجديد يزايد في الدعوة إلى إبعاد العسكر عن السياسة، وإلى مزيد من الديموقراطية وحقوق الإنسان.