في نهاية حفلة زفاف ابنتيهما، رأيتهما يبكيان بكاءً حد النحيب، ولأنني أعرف أن هذين الزوجين لم يزرقا سوى خمس بنات فقد استغربت هذا النحيب، خصوصاً من الأب، في الوقت الذي يفرح فيه الكثير من الآباء بالتخلص من بناتهن ويعتبرون الزواج المنقذ الوحيد لهم من حمل ذلك العبء الكبير الذي يتذمرون منه. قالت لي الأم وهي تكفكف دموعها: تزوجت من هذا الرجل بعد وفاة زوجته الأولى التي فارقت الحياة بتعسر في ولادتها للطفلة ولم يفلح الأطباء في إنقاذها، وفي ليلة زفافنا جاءني يحمل طفلته التي لم تتجاوز الأشهر الأربعة بعد، قال لي بلطف وحب هذه ابنتك البكر سلمتك أمانتها، ومنذ تلك اللحظة وأنا أعي المسؤولية التي حملتها، إضافة إلى الحب الكبير الذي امتلأ به قلبي لها، لم يدعني زوجي لحظة واحدة في مسؤولية رعايتها، إذ كان يشاركني في ذلك بحبه، واهتمامه، وملاعبته لها وقيامه بإرضاعها وغسلها وتنويمها إذا ما كنت مشغولة بأمور البيت، وكانت السعادة تغمرنا بفضل الله، ولم تمض سنة حتى رزقني الله بنتاً أخرى أكملت علينا الفرحة حتى أصبح لدينا خمس من البنات، وأمام الهمز واللمز وتسميتي من الأقارب والمحيطين بي «بأم البنات وزوجي أبو البنات». إلا أن ذلك لم يؤثر في زوجي وكان يقول لي لا تلتفتِ لهذه السخافات، على رغم إصرار والده على تزويجه بأخرى، وكان يقول لي أيضاً البنات رزق من الله فلماذا نجحد هذه النعمة، وما هي إلا سنوات حتى رزقنا الله ببيت بدلاً من الشقة التي كنا نستأجرها، وأنا وزوجي معاً نشترك في رعايتهن وتلبية طلباتهن المدرسية، علمناهن أن يحباننا ويحببن بعضهن البعض، كن حياتنا وكن شاغلنا الوحيد، والدهن هو الذي يوصلهن إلى مدارسهن، ونذهب أنا وهو معهن إلى السوق، ونصطحبهن في النزهات أسبوعياً. لم نبخل عليهن بالحب والرعاية، ولم نرَ واحدة منهن رفعت راية العصيان، إذا مرض والدهن يتسابقن على رعايته، من تقدم له الطعام، ومن تقدم له الدواء، ومن تقبل رأسه، ومن تدلك قدميه، وهكذا يفعلن معي، وبادلونا حباً بحب، وقد مَنّ الله على والدهن بالرزق الوفير، وترك الوظيفة، وقام بفتح مؤسسة تجارية صغيرة سرعان ما كبرت، وكلما اتسعت تجارته يقول هذا من فضل ربي ثم بفضل حبي لهؤلاء البنات، كن قرة عينيه يلاعبهن، ويحاورهن، وإذا ما أخطأن نبههن إلى ذلك برفق وحنان حتى يدركن حجم خطأهن فيأتين معتذرات ومقتنعات بذلك، ها هن قد كبرن وأصبحن موظفات منهن المعلمة، والطبيبة، والإدارية، وقد زوجناهن حتى أصبحن أمهات ومسؤولات عن تربية أطفالهن ومستقلات في بيوتهن، وعلى رغم إصرارهن على السكن معنا في عمارة والدهن الذي أعطى لكل واحدة منهن شقة مملوكة لها إلا أننا فضلنا أن يستقلن بحياتهن، ويفعلن مع أبنائهن مع فعلناه معهن، كن بسمة الدار وفرحتها، افتقدن ضجيجهن، وصخبهن، ومشاجراتهن مع بعضهن البعض، ودخلتهن، وخرجتهن، وأصبح البيت خالياً منهن وبقينا أنا ووالدهن وحيدين نتحرق لزيارتهن اليومية والأسبوعية، ولأجل هذا ترين منا هذا البكاء في ليلة الفرح هذه، لأن العروسة هذه أصغر البنات وآخرهن، وقد حان موعد مغادرتها لحياة جديدة في منزلها ومع زوجها، ومن هنا كان تأثرنا على فراقها أنا ووالدها. كم أعجبت بهذا الأب في زمن العنف الأسري، وقتل الآباء لبناتهن، وتبرؤهم منهن، وإساءة معاملتهن، بل وطردهن وأمهاتهن وهجرهن وتركهن للمجهول، وكم تمنيت أن كل الآباء مثله، وخرجت من حفلة الزفاف وأنا أردد أغنية سعاد حسني: «البنات البنات، ألطف الكائنات». [email protected]