معظم المؤشرات والمعطيات المحلقة في أفق جولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، الجارية بتثاقل ممل منذ تموز (يوليو) الماضي، لا تبدو مبشرة. ومع ذلك، لنفترض جدلاً أن جهود هذه الجولة أو أي جولات موازية، أو لاحقة أفضت إلى اتفاق بعينه، وأن الطرفين المتشاكسين الآن على كل شيء تقريباً اهتديا في لحظة ما إلى صيغة سواء بينهما، تحت رعاية العراب الأميركي أو سواه. ترى هل ينتهي الصراع الممتد على أرض فلسطين، فلا يبقي على هذين الطرفين سوى تطبيق ما تم الاتفاق عليه، بلا معقبات أو توابع أو خطوات أخرى فارقة؟ السيرة الذاتية لهذا الصراع المنكود، توحي بعدم استبعاد بروز عقبات كؤود من طبيعة أيديولوجية أو سياسية أو قانونية أو لوجستية فنية، تقف خلف الأكمة الإسرائيلية أو الفلسطينية، ربما كان من شأن بعضها الإطاحة بأي صيغة يتم الاستقرار عليها. ومما يعن للخاطر في هذا الإطار شبه التشاؤمي، أن طرفي التفاوض الأساسيين ألزما نفسيهما قانونياً باستفتاء شعبيهما حول اتفاق نهائي، وأكدا أنه لا مجال لمروره بمعزل عن اقراره شعبياً. على الصعيد الفلسطيني، يبدو هذا الإجراء منطقياً ومفهوماً، بل وربما كان مطلوباً، لأكثر من سبب. فالفلسطينيون هم الذين سيقع عليهم عبء التنازل عن حقوق تاريخية وقانونية ظاهرة. سياق التفاوض والتسوية القائم منذ عقدين، يوجب الاعتقاد بأنهم لن ينالوا مطالبهم الكفاحية، لا في كامل حدود فلسطين التاريخية، ولا حتى في نطاق ما ضمنته لهم الشرعية الدولية بقرار التقسيم الشهير لعام1947. ثم أن مفاوضيهم أقرب إلى القبول بدولة لا تقوم على حدود 1967 بالمعنى الحرفي. هذا علاوة على أن هؤلاء المفاوضين يعانون من شواظ التناظر الداخلي، حول شرعية أحقيتهم في تجاوز ما تعتبره قوى وطنية أخرى ثوابت حقوقية غير قابلة للتصرف التفاوضي. هذه المعطيات ونحوها تجعل لاستفتاء الفلسطينيين معنى، يدور باختصار حول «شرعنة» ما يتم الاتفاق عليه ومنح الثقة الشعبية لمفاوضيهم والتصديق على ما توصلوا إليه، وليس هذا حال الطرف الإسرائيلي. فنحن مع هذا الطرف بصدد استفتاء من لا يملك على ما لا يستحق. تنطبق هذه القناعة على كل واحدة من قضايا التسوية النهائية. أين هي أحقية الإسرائيليين، مفاوضين وحكومة و «شعباً»، في تعيين المستقبل القانوني لكل من القدس وحق العودة الفلسطيني والمستوطنات وحدود العام 1967 ومصادر المياه في الضفة وغزة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة؟ لا تفسير لاستفتاء سواد الإسرائيليين، سوى أن المفاوض الإسرائيلي ينطلق من اعتبار أن روايته للصراع ورؤاه الأيديولوجية وقوانينه الخاصة، هي معيار الأحقية من عدمها في تحديد مصير هذه القضايا الخلافية داخل عملية التسوية، وأن هذا المعيار يعلو ولا يُعلى عليه. نود القول إنه لو كان الإرث القانوني الأممي هو مرجعية التفاوض، ما كان لأحد حاجة في مثل هذا الاستفتاء، بل وما كان له من سند سياسي أو حقوقي قانوني وما كان ينبغي الاعتداد بنتائجه. اللافت بالخصوص أن بعض الإسرائيليين يعون هذه الحقيقة وينبهون، مثلاً إلى «... سخافة استفتاء الجمهور الإسرائيلي على الانسحاب من مناطق يجري تعريفها على أنها محتلة وليست جزءاً من الدولة». ويذهب هؤلاء إلى أن الداعين إلى هذا الإجراء يعرفون مسبقاً أنهم بصدد جمهور لن يسمح بتسليم هذه المناطق للفلسطينيين. ذلك لأن الساسة المجبولين على العقيدة الصهيونية رسَّخوا في العقل الجمعي الإسرائيلي أنها «أراض يهودية مقدسة». والحال كذلك، فإن استفتاء الإسرائيليين ليس أكثر من تعويذة جهنمية ضد التسوية السلمية. إذ لنا أن نتصور حجم الرفض الشعبي الذي سيفصح عنه إجراء كهذا عندما يتعلق الأمر بالانسحاب من القدسالشرقية، التي تم ضمها بالقوانين المحلية منذ عقود، وقيل للمستفتين على مدار عشرات السنين بأنها المكان المرشح لإعادة بناء الهيكل الثالث! ولا ريب في أن التوقع ذاته يصدق تماماً بالنسبة إلى قضايا أخرى، كالتخلي عن قطاع من المستوطنات أو عودة فئات معينة من اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم المغتصبة منذ 1948. وإذا كان الموقف السلبي هو المرجح من جانب الإسرائيليين، الذين لا يملكون أي صكوك أو مسوغات قانونية دولية تجيز لهم الاستيلاء على أي شبر من الأراضي المحتلة عام 1967، فكيف الحال مع أبناء الشعب الفلسطيني، الذين تنوء أكتافهم بأثقال من هذه الصكوك والمسوغات؟ تقديرنا أنه ليس ثمة ضمانات لئلا يصوِّت معظم الفلسطينيين بدورهم ضد اتفاق للتسوية، بات من المرجح أنه لن يستجيب لطموحاتهم السياسية وثوابتهم الوطنية التي توارثتها ذاكرتهم خلال مراحل الكفاح المرير منذ النكبة وما قبلها. هل تعني هذه التكهنات أن الطرفين المتفاوضين صنعا بنفسيهما ما يشبه الثقب الأسود، الذي قد يبتلع حصاد جهدهما الممتد، حين التزما بإجراء الاستفتاءات الشعبية كشرط شارط لإنفاذ هذا الحصاد؟ ربما كان الأمر كذلك بالفعل. * كاتب فلسطيني