يتّخذ الروائيّ الفرنسيّ فريدريك تريستان المولود في مدينة سيدان الفرنسيّة 1931، والحائز جائزة غونكور 1983، من جريمة مقتل الرئيس الأميركيّ الأسبق جون كينيدي خلفيّة يبني عليها روايته «دوّامة المجانين» (دار علاء الدين، دمشق 2010، ترجمة: سهيل أبو فخر)، ولا يقيّد شخصيّاته بما قيل عن الجريمة إعلاميّاً، بل يفسح لها المجال كي تدلي بدلوها، وتقدّم مقترحاتها وآراءَها حول الحادثة. يستهلّ الكاتب روايته بخبر مقتطَف من جريدة «لو فيغارو» بتاريخ 23 - 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، عن مقتل الرئيس جون كينيدي مساء أمس في دالاس أثناء جولة سياسيّة له في جنوبالولايات المتّحدة، وأنّه أصيب بعيار ناريّ في رأسه بينما كان يعبر المدينة في سيّارة مكشوفة. ثمّ يكمل الفصل بأن تنتقل شخصيّته الرئيسة التي يسمّيها هوغو إلى المقهى، الذي سيشكّل فضاء مفتوحاً للرواية، يستطلع آراء الناس، فتبدأ التكهّنات والتخمينات حول القاتل المزعوم، لينشط خيال كلّ امرئ، ويبدأ بالتحليل، حيث يقول البعض انّه كمين مدبّر من الكرملين، ومن تنفيذ رجال عصابة اليد السوداء، التي تكون خليطاً من عصابات دوليّة. ثمّ يقول آخر ان الضحيّة في جريمة القتل الجنديّ «راستابان»، ويزعم هوغو أنّه مطّلع على بعض الأسرار لكنّه لا يتكلّم، ولا يمكنه أن يبوح بأيّ شيء لأحد. يجيّر الكاتب خبرته الحياتيّة في خدمة روايته، حيث يستفيد من تنقّله بين دول شرقيّة منها لاوس وفيتنام والصين، ليبث قصصاً عن الشرق على ألسنة الشخصيّات، يستشهد بها، على سبيل الإثراء والاعتبار، كقصّة «آميلي» التي يقول إنّها تنحدر من قبيلة «موشيشانار» الملكيّة المشهورة لهنود كوربيستان، القبيلة التي يسمّيها العامّة رومانيشيل، والتي وُهبت قوّة العين الثالثة، ويعود أصلها إلى الشمس، ويقال إنّ هناك نبوءة أخبرت أجدادها إنّهم سيعيشون أحراراً خالدين إلى الأبد إذا استمرّوا في الارتحال. أمّا إذا حاولوا أن يستوطنوا في أي مكان فسيصبحون عبيداً ويموتون. نجد أنّ بطله هوغو، المتماهي معه، كما سيعترف في خاتمة الرواية، يبدأ بسرد تنظيراته عن الحياة والواقع، يناقش الشخصيّات التي يلتقيها، يتأثّر بها، يحاول تقمّصها، يبتعد عنها، ينفر منها، ومن تلك الشخصيّات: برونتان، آميلي، كينيدي، ميرلان، بواسار، لويز، أولمبيا، فوشو، ميرون، لادوكول... ثمّ نجده يلجأ إلى تهميشها وإقصائها في النهاية، يختار لها مصائر مأسويّة، ربّما كي يدلّل بطريقة وعظيّة إلى عاقبة الجنون الوخيمة. يسرد هوغو الرواية، يقف على حلبة المسرح، يكون المقهى بؤرة المؤامرة التي تُحاك، يتكيّف مع المسرحيّة بأسلحة بيضاء تماماً، بحسب تعبيره، وتلك الأسلحة عبارة عن أحلام ودفاتر وحسرات، تكون الأحلام ملفّقة والصفحات ملطّخة، لأنّه لا يودّ حشو الماضي، بل تراه يتقدّم في الذاكرة، والذاكرة تنسحب إلى زمن يعود من جديد، يغوص في ذكريات الطفولة التي تتزاحم في مخيّلته، يظهر حشد من الناس يمنعونه من العثور على الخيوط التي يبحث عنها في متاهة الذاكرة... حيث يكون هناك الكثير من الطبقات تراكمت عبر الزمن... تكون هناك حكايات فاحشة تندسّ في الشعور مثل حلم إنسان آخر في أعماق النوم، ليكون الحلم كبيراً ومتشعّباً... ويكون الآخرون أقنعة جوفاء، لأنّهم يتفتّتون في الواقع كما في الأحلام. يُتَّهَم «هوغو» الوحيد المهجور، المتمسّك باندماجه على رغم ما يلاقيه، بأنّه قد فقد رشده، حين يوصَف بأنّه يبدأ بالاختلاق، ذلك عندما يقول انّ المافيا الأميركيّة ليست هي من قتل كينيدي، يؤكّد أنّ مَن أوصى بالقتل هو غوستاف كراكن، المعروف أكثر باسم البارون ميدي، ومطلق النار ليس أوزوالد كما أشيع، بل هو بواسار مساعد جون رونتان... كما تفقد «آميلي»، التي ظلّت محافظة على تمرّدها وطفولتها، الحماسة التي كانت تدفعها إلى تحدّي الصعاب، يهدأ جموحها، ترغب في أن تعهد بمستقبلها الى من يمكن أن ينقلها من القفزة الكبيرة إلى المجهول. كأنّها بذلك تفقد الثقة بأصلها الأسطوريّ الملكيّ، وتسعى إلى الاستيطان في مكان ما لتغدو كغيرها صالحة للاستقرار والموت تالياً، من دون أن تنزلق إلى خانة العبوديّة التي تنتظر مَن قد يستوطن من قبيلتها في أيّ مكان. كأنّ تريستان في «دوّامته» يودّ أن يقدّم الجنون أو الاستجنان كوصفة عمليّة لمواجهة الواقع الكارثيّ الذي يتخبّط فيه البشر، ذلك حين يخلط بين الواقع الموضوعيّ والخياليّ، لينتج واقعاً روائيّاً فانتازيّاً، يستعين بأشياء من الطفولة والأحلام والجنون، لتكون شخصيّاته حمّالة رؤاه، ورؤى معاصريه، في حوارات يصوغها الكاتب لتكون معبّرة عن الجنون الذي يعترك في نفوس البشر، ويعكس طيبتهم ووحشيّتهم في آن، حيث القتل يسير بالموازاة مع المداواة، الألم صنو للأمل، والموت هو النهاية المحتّمة في الأحوال كلّها، لذلك فهو يرى في الجنون استهتاراً بوحشيّة الموت في كلّ مكان وزمان. نقرأ فريدريك تريستان في الخاتمة، وهو يتدخّل بطريقة مباشرة كروائيّ وراوٍ في الوقت نفسه، يعترف بأنّ هناك شخصيّات لا يستطيع المؤلّف أن ينفصل عنهم بسهولة، ولا ينتهي الأمر معهم بانتهاء الرواية، لأنّهم يأتون ليجلسوا بلا تكلّف على حافة سرير الكاتب، يتشبّثون به، يتغلغلون في كلّ ركن، يضربون على البلاط مكشّرين، يتدحرجون في المدخنة، يشكّلون كرنفالاً لا يرحم، وتكمن المفارقة في عدم القدرة على إسكاتهم، إلّا بتركهم يتكلّمون... يعترف بأنّه انساق وراء شخصيّاته، استسلم لمنطقها في التعبير والتبرير والقيادة... تعجّ «دوّامة المجانين» بالصور الشعريّة، ولا سيّما أنّ هناك شخصيّات تتعاطى الشعر، كتابة وقراءة، كأنّ الشعر المبثوث بين ثنايا الرواية يكون ردّاً على عنف الواقع الذي لا يستثني أحداً من تداعياته، كما أنّ اللغة الشعريّة تقدَّم كمعادل أدبيّ للخبر الذي يبني عليه روايته، التي لا تنساق وراء الجانب البوليسيّ، بل تكتفي بتقديم آراء عن جريمة مقتل كينيدي، وعلى رغم حرص الكاتب الجليّ على تطعيم روايته بأشكال السردّ المتنوّعة، إلاّ أنّها بدت معتمدة في شكل بارز على الجانب الشعريّ الذي تحكّم بمقاليد السرد، ووجّه دفّته، وقد شكّلت هذه النقطة ثقلاً في بعض المواطن، وتحديداً تلك التي كانت تستلزم جرعات واقعيّة أكثر منها شاعريّة أو مفعمة بالصور والاستعارات التي حلّت محلّ الحقائق، من دون أن تقنع بالإنابة عنها.