بينما جانب لا بأس به من الأثير العنكبوتي مشتعل بالتفاصيل المعلنة لمقتل ريجيني، وجانب كبير من الإعلام الغربي تتطاير شظاياه بفعل الرواية الرسمية لمقتل ريجيني، وجانب ضخم من مقالات الرأي وأعمدة الفكر في صحف غربية وأخرى عربية في دول بعينها تزخر بآراء وأفكار لا تخرج عن إطار المطالبة بتوقيع عقوبات وفرض جزاءات على مصر بسبب التفسيرات المعلنة عن مقتل، تتفاوت ردود الفعل الداخلية بين تصديق بيان «الداخلية» أو تكذيبه، ومناشدة «الخارجية» عدم ترك «الداخلية» وحدها أو رمي طوبة كليهما، والسخرية من الرواية الرسمية، أو صب نار الغضب على السخرية من باب الوطنية. لكن المثير أن رد الفعل الأكبر والأبرز والأعم هو تجاهل القضية برمتها. التعليقات والمداخلات الواردة إلى برنامج «التوك شو» الشهير الذي يقدم نفسه باعتباره البرنامج الداعم للنظام وحامي حمى الوطن ورافع راية الناصح الأمين للرئيس والوزراء، صبت في خانة تصديق تفسير وزارة الداخلية لمقتل الباحث وطالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني على يد عصابة تخصصت في سرقة متعلقات الأجانب. المتابعون والمعلقون والمتصلون تأرجحوا بين الشد على أيدي الداخلية التي لم تأل جهداً للتوصل إلى الجناة، والدق على أوتار الوطنية باعتبار الكشف هدفاً أصاب مرمى المشككين والمتآمرين، الخونة منهم والسذج. إلا أن برنامجاً آخر، عُرِف عنه ميله للموضوعية وتمسكه بقدر من الحيادية - في خضم هوجة إعلامية قوامها «الهبد والرزع» وعنوانها احتكار صكوك الوطنية- استضاف خبراء شككوا في الرواية الرسمية، وبرهنوا (من وجهة نظرهم) على افتقاد المنطقية، ووجهوا اتهامات بالتلفيق وأخرى بالسطحية. ناء سطح مكتب الصحافي الشاب، المطلوب منه عمل حصر شامل للآراء والمواقف المتخذة مصرياً ودولياً تجاه مقتل ريجيني، تحت وطأة ما جمعه من تأييد وتهليل للداخلية المصرية، وتشكيك وتنديد لها، واتهامات مسبقة بضلوع أذرع أمنية وأخرى ملوحة بتورط أجهزة استخباراتية دولية، وثالثة ملمحة إلى مسائل تتعلق بالشرف حيث علاقات نسائية، ورابعة ملسنة على انتماءات جنسية ربما تكون مثلية، وخامسة أخذت من كل فيلم أغنية وخرجت بنظرية تتعلق بقوى الشر الكونية. لكن المثير أن جميعها خلا من ردود الفعل الشعبية المصرية. مصرياً، وكما جرت العادة في عصر ما بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، تحزبت ردود الفعل وتسيست الآراء وتفاقمت المواقف وتفجرت النظريات، كل وفق موقفه من النظام الحالي، وموقعه من النظام السابق، ومقربته من جماعة الإخوان، ومرتبته في منظومة الداخلية، ومنظومته الفكرية تجاه الوضع الحالي والسابق والأسبق. وعلى رغم علو صوت داعمي النظام الحالي من السياسيين والإعلاميين، وبزوغ نجم مؤيديه والمؤمنين به في دوائر رسمية وغير رسمية، إلا أن دعم وترويج رواية الداخلية في شأن ريجيني يلقيان تصديقاً يميل إلى المحدودية ودعماً ينحاز إلى التشككية. وكما جرت العادة، فقد جاءت رواية وزارة الداخلية حول مقتل الباحث الإيطالي وكأنها هدية مقدمة للجماعة ومحبيها على طبق من فضة. مواقع الجماعة وأنصارها وحلفاؤها اعتبروا بيان الداخلية «حلقة جديدة من حلقات الكذب» و «دليلاً دامغاً على فشل داخلية الانقلاب» وأمارة من أمارات ضرورة عودة مرسي والجماعة لسدة الحكم لضبط الأمور وإصلاح الأوضاع وإنقاذ البلاد وإغاثة العباد. هذه المجريات الإخوانية الكلاسيكية رافقتها أخرى حقوقية حيث غضب شديد وحنق رهيب على وزارة الداخلية، وذلك من جانب عدد من الحقوقيين والنشطاء. وقد أجّج من هذا الغضب تزامن الإعلان عن «عصابة قتل ريجيني» وتصعيدات وتضييقات على عدد من المنظمات الحقوقية وإعادة فتح ملف قضية التمويل الأجنبي. لكن ما صنعه الاستقطاب في خمسة أعوام لا يمحوه المنطق في أيام عدة. فالتغريدة التي ذكرت فيها صاحبتها أن «القضية التي يناصرها الحقوقيون والنشطاء في مواجهة الدولة تعني أنها خيانة ومؤامرة» لخصت موقف كثيرين لسعتهم نيران حقوقية مسيسة سابقة، فباتوا ينفخون في زبادي حقوقي بديهي حالي. وعلى طرف النقيض الآخر، فإن الأثير العنكبوتي يحفل كذلك بموجات من السخرية والتهكم منذ تم الإعلان عن العصابة. فبين قائل بأن «الداخلية حاولت تقفل أزرار الجاكيت بعد رد فعلها الأولي عن مقتل ريجيني في حادث سيارة، فضرب البنطلون» ومتفكه بأن «العصابة المحتفظة بمتعلقات ريجيني الشخصية بعد قتله بشهرين كانت تنوي التبرع بها لصندوق تحيا مصر»، ومنكّت بأن «الداخلية تحتاج إلى ورش تدريب مكثفة لإتقان كتابة السيناريو وحبك ملكات الإخراج»، فضل آخرون التزام الصمت لحين استيضاح بقية تفاصيل القضية. بقية تفاصيل القضية – والتي لاقت أماراتها الأولية رفضاً إيطالياً واستبعاداً إعلامياً غربياً – ما زالت طي التحقيق وقيد التحليل ورهن التحليل والتعليل والتبرير. لكنها تحولت إلى قسم الأرشيف الشعبي حيث تسقط القضايا بالتقادم لكثرتها، أو التجاهل لشراء راحة البال، أو التغاضي تحت وطأة التراكم. أحدهم قال: «بصراحة الخبر كان مثيراً إلى أن أعلنت الداخلية عن حكاية العصابة». وتظل الأخبار الأكثر قراءة وتحليلاً وتعليقاً لا تخرج عن إطار «التعادل بين المنتخب القومي ونيجيريا 1-1»، و «إغماء الفنانة غادة إبراهيم (المتهمة بإدارة أعمال مخلة بالآداب في شقة) على الهواء» و «طريقة عمل شاورما الدجاج بدون دجاج».