هكذا هو قدرنا أن نشرب حليب «نيدو» أطفالاً، ونرضع حليباً طبيعياً ونحن رجال أشداء! «اللهم لا اعتراض» من جدة إلى الدمام مروراً بالرياض، وما دامت فتوى أباحت ذلك فابحثوا عن مرضعات، طبعاً نعتذر من الأخوة العرب والأجانب المقيمين في بلادنا، فالفتوى موجهة للسعوديين فقط، ولا تجوز في أماكن العمل ولا للسائقين أو الخدم على رغم أن سبب تبريرها يعود إلى انه «إذا احتاج أهل بيت «ما» إلى رجل أجنبي يدخل عليهم بشكل متكرر وهو أيضاً ليس له سوى أهل ذلك البيت ودخوله فيه صعوبة عليهم ويسبب لهم إحراجاً وبالأخص إذا كان في ذلك البيت نساء أو زوجة، فإن للزوجة حق إرضاعه». لكنها – أي الفتوى – لم توضح عدد الرضعات، لذلك أرى أن تكون حولين كاملين، وبالنسبة لمرضى السكري، فلا بأس بالحول الثالث، فمن المعروف أن الحليب الطبيعي يملك من العناصر الغذائية ما لا يتوافر في أي حليب آخر سواء كان حليب بقر أو ماعز أو خلفات أو صناعي. إذاً وداعاً لشركات الألبان ما لم يصنعوا عبوات حليب طبيعي عندها فقط قد نفكر في العودة، وأيضاً من شأن هذا التوجه أن يفتح باباً تجارياً من خلال عودة المرضعة في الأحياء إلى الواجهة، وبالتالي قد تجد طوابير أمام احد المنازل لتلقي الجرعة في موعدها. ترى عن ماذا كشفت هذه الفتوى، وما الذي نفعت به؟ الخطورة لا تكمن في الفتوى فقط، ولا في الخلاف الذي لاقته من علماء آخرين، لكن من وجهة نظر شخصية صرفة، أرى أن هناك محورين لابد من الخوض فيهما. الأول يتعلق بهذا الارتداد الذي نشهده بين عدد من العلماء في قضايا جدلية اختلفوا فيها قبل ان يختلف فيها العامة، تتناقض تماماً مع ثقافة سائدة، والخطر الذي أشير له هنا هو القدرة على توظيف تلك الأدلة أو إخفائها وإثارة البلبلة من خلالها. ومثل هذا الفكر الذي يقدح تارة ويخمد تارة أخرى لا يمكن أن تعول عليه كثيراً، لأنه لا يخضع للمنطق ولا للمصلحة العامة، والشواهد على ذلك كثيرة، فمن الأغاني إلى الاختلاط والآن إلى الرضاعة وغيرها كثير من الفتاوى التي أطلقت فردياً وانقسم حولها العلماء والجمهور، لكن ما دام لدى بعض العلماء - من مطلقي تلك الفتاوى - هذه القدرة على استنباط الأحكام فلماذا لا يجتمعوا جميعاً، ويتم البت في تلك الفتاوى بدلاً من حال الهذيان الذي نشهده والتضاد على الفضائيات وفي الإعلام المكتوب. أما المحور الثاني فهو المرأة، إذاً عودة إلى المربع الأول، هذا المربع الذي لم نتمكن حتى الآن من الخروج منه «هلكنا»، فعدد كبير من الفتاوى تتحدث عن المرأة وما يخصها، وأخيراً نشط موضوع الاختلاط بشكل غير مسبوق، وانقسم حوله العلماء بين مؤيد «وبقوة» ورافض «حتى أشعار آخر»، بيد أن ظروف الحياة ووتيرة سيرها السريعة وإيقاعها الذي يفرض نمطاً على الناس لم يمكن من التعاطي بعقلانية مع هذا الموضوع الذي تحول إلى قضية، وفشل البعض في إقناع المجتمع بحرمة الاختلاطعلى رغم ما ساقوه من أدلة وبراهين، وقصص تم نسجها تذهب إلى تحذير المرأة بأن أفراد المجتمع كافة وحوش يتربصون بكل من تخرج من منزلها للاعتداء عليها، وأمام هذا الفشل في تقديم إثبات الرؤية الشرعية كانت هناك حلول أخرى تدعو إلى البحث عن مدخل آخر، قد تكون «وأقول قد وهي ليست جازمة» الرضاعة باباً شرعياً للاختلاط، فهي ستحل هذه القضية في شكل جزئي، ويصبح المجتمع «أمهات وأبناء»، ويتفرغ أولئك العلماء لقضايا بر الوالدين. لاشك أن حراكاً يشهده المجتمع السعودي في أطيافه كافة، والجميع يعلن عن مراجعات تسانده في تأدية دوره على أكمل وجه، لكن المؤسسة الدينية التي لا يمكن لأي كان القيام بدورها لم نسمع منها ذلك، وفي المقابل من الواضح ان هناك مراجعات تتم لكنها تخرج للعلن في شكل فردي ما خلق حالة جدلية حتى بين العلماء أنفسهم. وعلى رغم ان هذه الحال تعد ايجابية لكونها تخلق جواً من الحوار، إلا ان اليوم هناك حاجة ملحة لتدخل هيئة كبار العلماء والبحث في القضايا ذات الخلاف والمثيرة للجدل والبت فيها، وأقول ان تتدخل هيئة كبار العلماء في هذا الوقت لأنه مازال في الإمكان احتواء أي خلاف والحفاظ على الصورة الوقورة المحفورة في أذهاننا عن المؤسسة الدينية، وأيضاً خدمة المجتمع وتيسير أموره لا تعقيدها مثلما هو حاصل الآن، فليس من المعقول أن ننتظر احد العلماء حتى يشارك في العرضة أو يختلط «عارضاً» ليقتنع ومن ثم يجيزه «بضوابط». [email protected]