لا يستمد تأثير الدول وقوتها من قوة السلاح أو العلم فقط، بل إن انتشار اللغة التي تتحدّث بها هذه الأمة أو تلك دلالة من نوع آخر على مدى قوتها وتأثيرها، وأن الإقبال على تعلّم لغة أجنبية جديدة يكشف أهميتها ومكانتها على الخريطة. وإذا كانت اللغة الألمانية باتت الشغل الشاغل للمهاجرين واللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان، فمردّ ذلك إلى ظروف اللجوء إلى ألمانيا، حيث يشكّل تعلم اللغة أحد أهم تحديات الاندماج في مجتمع هذا البلد، ويكشف في الوقت عينه أن عدد الذين سيتكلّمون الألمانية سيزداد بعد سنوات. من جهة أخرى، كشف العامان الماضيان عن مشكلة حقيقية في ألمانيا، تتجسّد في قلة عدد المعلّمين القادرين على تعليم لغة البلاد. وليس لدى المقيم هناك خيار آخر إلا أن يتعلم الألمانية إذا أراد العمل أو الدراسة أو بغية تحقيق اندماج أفضل في المجتمع. ولعل خير دليل على تمسّك الألمان بالتكلّم بلغتهم الأم ولو كانوا يتقنون الإنكليزية، ما ردّ به وزير الخارجية السابق غيدو فسترفيلي، على صحافي سأله إذا ما كان يستطيع التحدّث بالإنكليزية. فأجاب: «المتعارف عليه أن الإنكليزية هي اللغة المتحدث بها في بريطانيا، كذلك الأمر هنا، فما دمنا في ألمانيا علينا التحدّث بالألمانية». وأردف قائلاً: «خارج هذا المؤتمر الصحافي ممكن أن نلتقي ونجري محادثة بالإنكليزية ونحتسي الشاي». وفي سياق متصل، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعلى رغم إتقانه اللغة الألمانية، إلا أنه في مقابلات كثيرة مسجلة مع محطات التلفزة الألمانية، كان يتحدّث بالروسية مع وجود ترجمة فورية. لكن وزارة الخارجية الألمانية أعلنت في ضوء إحصاء أجرته، أن اللغة الألمانية تتراجع في روسيا، إذ يوجد حوالى 143 ألف شخص يتقنون الألمانية من بين 1,5 مليون روسي، في مقابل 800 ألف شخص قبل خمسة أعوام. وعلى رغم أن حلم السفر والعمل في ألمانيا يدغدغ أحلام روس كثر، إلا أن الإقبال على تعلّم اللغة الألمانية يبدو لا يوازي حلم الحياة فيها. والأمر على نحو مختلف في بريطانيا، حيث تكشف إحصاءات عن أن نصف عدد مدراء الشركات هناك، يطلبون إتقان الألمانية كلغة ثانية، عند التوظيف. فإتقانك الألمانية في بريطانيا يجعل فرصتك في الفوز بوظيفة في أحدى الشركات أكبر. ويُظهر هذا الإحصاء أن الفرنسية في صدارة اللغات المطلوب إتقانها عند التوظيف في بريطانيا، تليها الألمانية، فالماندرين والبولندية، وتأتي العربية في المرتبة السادسة. كذلك أصبح طلب إتقان اللغة العربية في بعض الوظائف في ألمانيا أمرأ ملحاً، بسبب وفود أعداد كبيرة من اللاجئين إليها. كما باتت الألمانية تنتشر وتجذب الراغبين في تعلّمها، خارج حدود ألمانيا، بسبب قوة اقتصاد هذا البلد، وتعدد فروع شركاته في أوروبا، ورغبة شباب كثر من دول هذه القارة، مثل إسبانيا وإيطاليا، ترتفع فيها نسبة البطالة، في الحصول على فرصة عمل في ألمانيا أو إحدى شركاتها. ويوجد برامج متعددة لشركات ألمانية تنفّذ في إسبانيا مثلاً، بهدف إجراء تدريب مهني للشباب هناك وتعليمهم اللغة الألمانية. ويتقن سياسيون الألمانية، مثل رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، الذي يسعى جاهداً لبناء علاقات قوية تجمع برلين وأنقرة. وتتقن نسبة غير قليلة من الأتراك - خصوصاً في المناطق السياحية - اللغة الألمانية، إما لإقامة عائلات فترة من الزمن في ألمانيا، أو تعلّم بعضهم هذه اللغة تسهيلاً للتواصل مع الألمان، الذين تشكّل تركيا أحد أبرز وجهاتهم السياحية. ويعدّ حديث العائلات التركية المهاجرة واحداً من التقويمات التي تشير إلى انتشار اللغة الألمانية وقوتها، على رغم ملاحظات مستمرة عن عدم قدرة أسر كثيرة في ألمانيا من أصول تركية على الحديث داخل المنزل بالألمانية، ما دفع بسياسي ألماني إلى تقديم مقترح بضرورة سن قانون يجبر هذه العائلات على الحديث بلغة بلاده داخل منازلها وفرض الأمر عينه على اللاجئين السوريين الجدد. وتفيد بيانات منظمة التعاون والتنمية لعام 2012 أن 40 في المئة من المهاجرين في ألمانيا لا يتحدّثون لغة هذا البلد داخل منازلهم، علماً أن النسبة الأعلى تسجّل في الولاياتالمتحدة (60 في المئة من الأسر المهاجرة). وتأتي إسبانيا في مقدمة الدول الأوروبية التي تعاني من هذه المشكلة، حيث 24 في المئة من الأسر المهاجرة إليها لا تتكلّم الإسبانية.