عندما اتجهت أنظار العالم في الأيام الماضية إلى طهران ترقب وساطة الرئيسين البرازيلي لولا دا سيلفا والتركي رجب أردوغان لتسوية أزمة تخصيب اليورانيوم الإيراني، لم يكن الاهتمام كله متعلقاً بنتائج هذه الوساطة. فقد انصب جزء من هذا الاهتمام على أداء الوسيطين، اللذين يحظى كل منهما بإعجاب في غير قليل من الأوساط الدولية. فهما من أكثر قادة العالم جذباً للانتباه في السنوات الأخيرة لما يحققانه من إنجاز، ولطريقتهما في معالجة الأمور. فقد ساهم كل منهما في وضع بلده بين الدول الصاعدة بسرعة الصاروخ إلى قمة العالم الاقتصادية وعلى خريطة البلاد التي تزداد مكانتها بإطراد. وإذا كان التحول الكبير الذي أحدثه أردوغان داخل بلاده وسياستها الخارجية معروفاً لدى العرب على نطاق واسع، فكذلك الحال بالنسبة إلى «بصمة» دا سيلفا على سياسات بلاده الاقتصادية والاجتماعية والخارجية والتي يعرفها الناس جيداً في أميركا اللاتينية. ولكن المهم هو أن لكل منهما مكانة مميزة على المستوى الدولي أيضاً، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على سياساتهما. فيبدو كل منهما قائداً مميزاً ليس فقط في أدائه ولكن أيضاً في شخصه. وهذا نوع جديد من «الكاريزما» التي بدا منذ سبعينات القرن الماضي أنها في حال انحسار. فقد رُسمت في منتصف ذلك القرن وربعه الثالث صورة معينة للقيادة «الكاريزماتية» في البلاد النامية انطلاقاً من قادة كبار مثل نهرو وتيتو وسوكارنو وعبدالناصر ونكروما. وعندما رحل هؤلاء القادة، بدا أن نمط القيادة «الكاريزماتية» غاب معهم. ودعم هذا الاعتقاد أن العالم المتقدم لم يقدم، بدوره، قادة من نوع تشرشل وأيزنهاور وديغول وكنيدي بعد رحيلهم. وازداد الاعتقاد، حتى على المستوى الأكاديمي، بأن عصر القيادة «الكاريزماتية»، التي تمتلك سحراً شخصياً قوياً وقدرة خطابية بالغة، وتمارس تأثيراً غير عادي في الجمهور والنخب، قد مضى. وحدث في العقود الثلاثة الأخيرة ما دعم هذا الاعتقاد، وخصوصاً ثورة الاتصالات التي أنتجت تحولين تاريخيين: أولهما في بدايتها عندما أحدث التلفزيون انقلاباً في الحملات الانتخابية عبر ما صار يُطلق عليه صناعة المرشحين. وعندما تكون هذه الصناعة في انتخابات رئاسية، فهي تعني صناعة الرئيس الذي قد لا يحتاج - والحال هذه - الى مقومات قيادية كافية، ناهيك عن أن تكون «كاريزماتية». أما التحول الثاني فقد ارتبط بالتوسع الهائل والتطور الجوهري في وسائل الاتصال عبر البث الفضائي والإعلام الالكتروني والمزج بين الهاتف والكومبيوتر المحمولين. فقد أصبح رؤساء الدول والحكومات وغيرهم من القادة السياسيين مكشوفين ليل نهار أمام الناس، على نحو أزال المسافة التي يلزم وجودها لكي تلمع «الكاريزما» في جانبها الشخصي. فصار صعباً إخفاء ما يخدش صورتهم بدءاً من زلات اللسان ووصولاً إلى الأخطاء الكبرى، الأمر الذي يظهرهم بشراً عاديين، بمن في ذلك المميزون بينهم. غير أن هذا الاعتقاد بنهاية عصر «الكاريزما» جانبه الصواب. فقد اختلف مفهوم «الكاريزما»، وتغير طابعها. كان هذا المفهوم قد انصرف في مرحلة سابقة إلى الشخص أكثر مما ارتبط بأدائه وما حققه من نجاح أو فشل. ولذلك لم تكن سياسات بعض أعظم القادة «الكاريزماتيين» فاشلة فحسب، بل كارثية أيضاً. وقد ترك بعضهم بلاده في وضع سفلي من دون أن يؤثر ذلك في تعلق شعوبهم بهم وحبهم لهم. غير أن هذا لم يعد ممكناً في عالم اليوم. أصبح الفصل صعباً بين طابع شخصية القائد وأدائه. وبات نجاحه أو تحقيقه إنجازاً من ضرورات «الكاريزما» أياً يكون سحره الشخصي وقوة تأثيره في الناس. وهذه هي حال قادة من نوع دا سيلفا وأردوغان اللذين حقق كل منهما مكانة مميزة على رغم أنهما ليسا من أصحاب الشخصيات الساحرة. كما أن كلاً منهما وصل إلى السلطة عبر الانتخابات، وليس من خلال قيادته ثورة أو انتفاضة بخلاف ما كانت عليه الحال من قبل بالنسبة إلى القادة «الكاريزماتيين» في منطقتهما. وهما، إلى ذلك، زعيمان معتدلان. وحتى حين يلجآن إلى خطاب شعبوي فبحساب. فلم تعد الشعبوية شرطاً للقيادة غير العادية. والدليل على ذلك هو الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي بدا، خلال لقائه معهما كما في كل مناسبة، حاكماً عادياً من النمط التسلطي. وثمة دليل أقوى نجده في حال رئيس فنزويلا هوغو شافيز الذي فشل في أن يبدو زعيماً غير عادي، على رغم أنه يأتي عجباً في سعيه هذا، ويخوض معارك «دونكيشوتية» ويبدد موارد بلاده الطبيعية التي لم يضف إليها شيئاً. فشتان بينه وبين دا سيلفا الذي نجح في تقليص نطاق الفقر في بلاده، في الوقت الذي نهض بالاقتصاد وقدم نموذجاً جديداً في التصنيع وقاد تحول البرازيل إلى دولة كبرى. فلم تكن سياسته الاجتماعية على حساب الإنجاز الاقتصادي. كما تبنى سياسة خارجية مستقلة، ولكن من دون شعارات ومزايدات. ولم يحل استقلالها دون تدعيم العلاقات مع الولاياتالمتحدة في ما تقتضيه مصالح بلاده. لذلك صار دا سيلفا نموذجاً لليسار الديموقراطي الذي يمزج بين الإنجاز الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، فيما أصبح أردوغان نموذجاً لتيار إسلامي ديموقراطي لا مثيل له حتى الآن في عالمنا العربي. وإذ يجمعهما ميل ديموقراطي لم يكن من تقاليد تيارات اليسار والإسلام السياسي، وما زال محدوداً في أوساطها، فقد اقترنت «كاريزما» كل منهما بعلاقة قوية مع جمهور من المواطنين - الناخبين وليس الرعايا - المبايعين. وتبلورت هذه العلاقة في عمليات انتخابية بدأت بلدية ونقابية وانتهت تشريعية ورئاسية، وليس في ثنايا ثورات ديموقراطية ملونة لم تنتج قادة «كاريزماتيين» لأن زعمائها الذين تولوا السلطة فشلوا في تحقيق إنجاز، أو ارتكبوا أخطاء كبيرة فانكشفوا حتى أمام من تبعوهم، على رغم أن بعضهم امتلك المقومات الشخصية اللازمة لهذا النوع من القيادة. والمثل الأبرز على ذلك يوليا تيموشينكو، التي أُطلق عليها خلال ثورة اوكرانيا في 2004 وبعيدها، «الأميرة البرتقالية». وبدت بشخصيتها الساحرة وحيويتها الفائقة وقدرتها الخطابية رمزاً لهذه الثورة، التي لم يتخيل أحد وقتها أنها تحمل في داخلها بذور انهيار سريع بسبب عدم التوافق بين القوى التي أشعلتها. وقد فشلت تيموشينكو في إثبات قدرتها القيادية حين غاب عنها أن بناء توافق وطني هو الطريق إلى النجاح، فساهمت في تفريق من كان مفترضاً أن تجمعهم. والحال أن النجاح والإنجاز صارا شرطين لا غنى عنهما للقيادة «الكاريزماتية»، إلى جانب الشخصية الجاذبة والمؤثرة. لذلك، فشتان بين دا سيلفا وكاسترو مثلاً، أو بين أردوغان وعبدالناصر، على رغم أن في عالمنا العربي من لا يرون فارقاً، لأن ضباباً كثيفاً يجثم على العقل ويعوق الرؤية. * كاتب مصري.