كانت التوقعات بأن حزمة الإنقاذ المالي الأوروبية بقيمة تريليون دولار لمواجهة الأزمة في اليونان ودول أخرى في منطقة اليورو، ستؤدي إلى عودة الثقة باليورو ووقف تدهوره تجاه العملات الرئيسة الأخرى وفي مقدمها الدولار. غير أن مخاوف من حدوث تضخم في حال تقديم هذا المبلغ بالفعل وسط شكوك بقدرة اليونان على إعادة ديونها على حد تعبير رئيس البنك الألماني جوزيف أكرمان، إضافة إلى عدم تنسيق السياسات المالية لدول منطقة اليورو، على رغم اعتمادها عملة موحدة، أدت إلى فقدان مزيد من الثقة بالعملة الأوروبية التي تراجعت إلى ما دون 1.25 سنت من العملة الأميركية التي ازداد الطلب عليها في صفوف المستثمرين والمتعاملين. لكن المشكلة أن الدولار ليس المرفأ الآمن الذي يمكن الركون إليه وقت الأزمات، لأن عجز الموازنة الأميركية وصل بدوره إلى مستويات قياسية تهدد بأصعب سنوات قد تواجهها الولاياتالمتحدة في تاريخها. ولا يغير من الخطر الداهم بالدولار، وجود فرص نمو اقتصادي أفضل في الولاياتالمتحدة مقارنة بمثيلتها في دول منطقة اليورو في الوقت الراهن. وعلى رغم أن هذه الفرص تدفع بعدد كبير من المودعين والمستثمرين للتحوط بالدولار حالياً، فإن هذا التحوط لا يبدو الأضمن لأموالهم في ظل بقاء هذه الفرص في حدود متواضعة، وعلى ضوء تراجع قدرة الولاياتالمتحدة على الاقتراض من الصين ودول شرق آسيا الأخرى لتمويل عجزها وخدمة ديونها. وعلى هذا الأساس يزداد عدد المودعين والمستثمرين على مستوى القطاع الخاص والحكومات الذين يتوجهون إلى الاستثمار وإيداع أموالهم في مجالات أخرى أهمها المعادن الثمينة والمواد الأولية الاستراتيجية. وهو الأمر الذي رفع منتجات الذهب إلى مستويات قياسية بلغت نحو 1250 دولاراً للأونصة الواحدة أواسط أيار (مايو) الجاري. وبدأت دول كالصين بالعزوف عن شراء السندات الأميركية لمصلحة الاستثمار في البلدان النامية والتحوط بمواد أولية استراتيجية منها مثل النفط والفضة والنحاس والزنك والحبوب، لا سيما أن أسعارها مناسبة. ومع عزوف الدول التي تتوافر لديها احتياطات هائلة بالدولار عن الاستثمار في السندات الأميركية، وترجيح ابتعادها من اليورو والسندات الأوروبية بسبب تراكم عجز موازنات منطقة اليورو، يتوقع ازدياد الطلب على المواد الأولية الاستراتيجية بغية التحوط بها من أجل المستقبل، لا سيما أنها ثروات ناضبة وأن الطلب العالمي عليها مستقبلاً إلى ازدياد، ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعارها مجدداً. إزاء ذلك، فإن على البلدان العربية الغنية بهذه المواد الحرص على عدم المبالغة في استغلالها وبيعها في الأسواق العالمية بالأسعار الحالية إلا عند الضرورة. فالحفاظ على هذه الثروات قدر الإمكان يحميها وحده من تقلبات أسعار العملات والأسهم والسندات المالية التي يتوقع تعرضها إلى مزيد من الضغوط في الفترة المقبلة. وستأتي هذه الضغوط في ضوء تراكم المشاكل المالية والاقتصادية في الغرب الذي يعالج تراكم مديونياته بمزيد من الديون التي تهدد فرص النمو وتجلب معها أخطاراً تضخمية لا تحمد عقباها على دول تؤجل الديون إفلاسها على أرض الواقع مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا وبريطانيا والولاياتالمتحدة. * خبير اقتصادي