عشية إجراء انتخاب هيئة جديدة لاتحاد الكتّاب اللبنانيين تنادى جمع من المنتسبين الى هذا الاتحاد، يبدو أنهم سيخوضون «المعركة» الانتخابية، وأصدروا بياناً دعوا فيه الى استنهاض الاتحاد وتجديده، وقدموا بضعة مقترحات لإصلاحه ومعاودة لمّ شمل أعضائه الذين هجروه وابتعدوا عنه بعدما يئسوا من حاله المزرية. قد يكون هؤلاء على حق مبدئياً، فالاتحاد هذا لم يبق منه سوى اسمه وحفنة من المنتفعين والمتنطحين الى المناصب والمتأدبين الذين لا حضور إبداعياً لهم وبعضهم يكتبون في حقل الأبراج والطبخ والسياحة والرياضة... إلا أن هؤلاء «الإصلاحيين» الذين انضووا في لائحة انتخابية اسمها «لائحة الإصلاح والتجديد» تنطبق عليهم المآخذ التي تؤخذ على الاتحاد، ما خلا بضعة أسماء قليلة منهم. وهؤلاء يحتاجون فعلاً الى مَن ينتفض عليهم ويفضح «أحجامهم» الإبداعية الضئيلة ويسائلهم كيف انتسبوا الى الاتحاد وماذا يفعلون فيه، وبعضهم يكاد يكون مجهولاً تماماً... يذكر المثقفون اللبنانيون كيف فتح سابقاً بعض المتنازعين على احتلال الأمانة العامة للاتحاد وعلى هيئته، الأبواب أمام كل مَن خوّلته نفسه حمل القلم، بغية ربح الأصوات في المعركة الانتخابية، وكيف أطاح هؤلاء المتنازعون شروط الانتساب الى الاتحاد والمعايير الأدبية المفترضة غير مبالين بما يُسمى قيماً أدبية أو إبداعاً أو أثراً... هذا «التجييش» الانتخابي الذي شهده الاتحاد في الثمانينات عندما سيطرت عليه الأحزاب الوطنية، ظل مستمراً حتى عندما أفلس الاتحاد في المراحل الأخيرة، بعدما هيمن عليه ضرب آخر من «التسييس» والتوجيه... ويذكر المثقفون ايضاً كيف أن هيئة الاتحاد «طرحت» الصوت، بُعيد اتفاق الطائف داعية أدباء المناطق الشرقية - كما كان يقال سابقاً - الى الالتحاق بالاتحاد، لإحداث توازن ولو شكلي في التمثيل الطائفي والحزبي والمناطقي. فالتحق مَن التحق بالاتحاد ورفض مَن رفض الالتحاق به، وكان أصبح هزيلاً وغير شرعي أدبياً وإبداعياً. وسعى بعض الأدباء والشعراء الحقيقيين أكثر من مرة الى الانقلاب على الاتحاد وإصلاحه، وعجزوا بعدما اصطدموا بالقوة الانتخابية التي يملكها الأوصياء على الاتحاد والمسيطرون عليه عددياً. وسعت جمهرة أخرى من الكتّاب الى تأسيس «رابطة» أدبية تكون بديلاً للاتحاد وعجزت أيضاً، نظراً الى أن الاتحاد يحظى برضا السلطة أو السلطات المتعاقبة. هكذا كان لا بد للاتحاد من أن يقع في حال من العزلة الإبداعية والتهميش، أقفل الباب على أعضائه - وما أكثرهم - واكتفى بهم، وراح هؤلاء ينتخبون أمينهم العام، مثلما يُوحى إليهم، يجددون له دورة تلو أخرى، غير آبهين للنظام الداخلي. حينذاك لم يشهد الاتحاد حركة انتساب جديدة، فالباب مقفل ولا يفتح إلا للمنسحبين. وكان الأمناء العامون وهيئاتهم يجيدون لعبة «الأرقام» الانتخابية، حتى أضحى الكاتب المنتسب أو المنسحب مجرد رقم في اللائحة الانتخابية. وكانت الهيئة الراحلة تسلّم زمام «السلطة» الداخلية الى هيئة تنال رضاها، ونادراً ما كان يخترقها اسم جديد أو غريب عنها. غاب اتحاد الكتّاب غياباً شبه تام عن المعترك الأدبي والثقافي على مرّ «عهوده»، ولم يكن اسمه يتردد إلا عند انتخاب أمينه العام وهيئته، أو عند رفعه بيانات التهنئة في الأعياد الوطنية، وكان غالباً ما يهنئ السلطة ورموزها في المناسبات الرسمية. ولا يذكر المثقفون اللبنانيون أن الاتحاد رفع بيان تضامن مع كتاب منع أو مسرحية أوقفت الرقابة عرضها أو فيلم مرّ عليه مقص الرقيب عشوائياً... ولا يذكرون أيضاً أن الاتحاد شارك مرة في إحدى معارك الحريات أو الحقوق المنتهكة، أو آزر قضية عربية ملحة، أو كاتباً عربياً كان يحتاج الى مَن يتضامن معه. وقد عمد الاتحاد الى إصدار أعداد يتيمة من مجلة حملت اسمه وسرعان ما توقفت بعد فشلها الذريع، تحريراً وانتشاراً، وهي لم تنل صدى ولا حُسب لها حساب. وعمد الاتحاد كذلك الى إصدار أعمال أدبية قليلة، بدا من خلالها كأنه يسترضي فلاناً ويغري علاناً أو يشتريه، ومعروف أن صندوق الاتحاد يحوي مالاً غير يسير تمّ التبرّع به له رسمياً. ولا أحد يعلم ماذا يحوي الصندوق وكيف يقدم خدماته. كلما اقترب انتخاب الأمين العام للاتحاد وهيئته، ترتفع الضوضاء أو الجعجعة - التي بلا طحن - فتعود الى الذاكرة ذكرى هذا الاتحاد المعطّل، وما إن يتمّ الانتخاب حتى تخفت «الجعجع» ويعاود الاتحاد الغرق في نومه الذي يشبه نوم أهل الكهف. وليت هذا الاتحاد الذي لم يوجد لنفسه وظيفة ولو نقابية، ولم يعِ معنى أن يكون اتحاداً أدبياً، ليته يستيقظ ذات يوم من سباته فيجد نفسه وقد أصبح اتحاداً لكتّاب لم يحملوا في حياتهم قلماً، ولا ألّفوا كتاباً. فالاتحاد في صورته الراهنة لا يليق إلا بمثل هؤلاء.