بعد اعلانه مباشرة شكَّك الرئيس الروسي ديميتري مديفيديف ب «الاتفاق التاريخي» الموُقَّع بين البرازيل وتركيا وايران لتبادل الوقود النووي على الأراضي التركية، إذ تساءل «هل ستخصّب إيران اليورانيوم بنفسها؟ في حدود ما فهمته من مسؤولي تلك الدولة، سيستمر هذا النشاط. وفي هذه الحالة، ستستمر المخاوف التي أبداها المجتمع الدولي سابقاً». وهذا الموقف بدا مُحيراً للذين كانوا قبل أيام قليلة من ذلك يحتفلون بما قاله الرئيس الروسي أثناء زيارته الى كل من دمشق وأنقرة واعتبروه عودة روسية على جناح خطاب شبه سوفياتي الى الشرق الاوسط، وكذلك بما فعله عبر اجتماعه برئيس المكتب السياسي لحركة «حماس». وبصرف النظر عن مآل الموقف الروسي من الاتفاق وتفاصيله يمكن القول أن هذا المثال يُظهِر كم أن مُستعجِلي انبعاث الروح السوفياتية المنصرمة كانوا وما زالوا يملكون قراءة جزئية وإرادوية للسياسات الروسية وشروط ممارستها وإمكانها بعامة. ربما كان على هؤلاء ملاحظة أن روسيا لم تبدِ يوماً مساندة غير مشروطة للبرنامج النووي الايراني واحتمال عسكرته، أو معارضة صريحة للعقوبات على إيران بسببه او للدول الغربية الداعية الى فرضها، وإن كانت في الوقت نفسه لم تمتنع عن توقيع اتفاق لبناء مفاعل بوشهر أو بيع طهران أسلحة لتماطل في تسليم بعض أنواعها لاحقاً. وهي نفسها صورة المسلك الروسي إزاء قضايا الشرق الاوسط عموماً. وكمثال آخر، ففي الوقت نفسه الذي كانت موسكو تطوّر علاقات عمل مع الصناعات العسكرية الاسرائيلية كانت تستقبل وفداً من «حماس». كما تعمل موسكو منذ سنوات على إقامة علاقات وثيقة مع دول لم تكن تتمتع بعلاقات تقليدية قوية معها مثل المملكة العربية السعودية وتركيا في حين كانت تتابع علاقات حسنة مع اصدقائها التقليديين في المنطقة مثل سورية. وبالتالي فإذا كان من نافل القول التأكيد على استبعاد قراءة المواقف والتكتيكات الروسية في الشرق الاوسط من الزاوية المبدئية والايديولوجية فإنه خطير بالمقدار نفسه إجراء هذه القراءة انطلاقاً من فرضية أن روسيا توصلَّت او انها شارفت على التوصل الى استعادة مكانتها كقوة عظمى منافسة للقوة الاميركية. وإذا كان من الصحيح القول أنه منذ وصوله الى رأس السلطة وفلاديمير بوتين يسعى في خطابه السياسي الى تظهير انه يعمل لاستعادة هذه المكانة إلاّ أنه ومجموع الطاقم الحاكم يعرفان جيداً ان الاستعادة الفعلية هي هدف على المدى الطويل وأن إمكان تحقيقه الفوري غير متوافر. وهذا ما دفع موسكو الى اعتماد استراتيجيات متداخلة تستبطن معالجة نقاط الضعف الاقتصادية والمؤسسية والمجتمعية التي رافقت واختتمت المرحلة السوفياتية وأضيفت اليها أخرى جديدة بعد تحللها وانصرامها مما يجعل مشروع الاستعادة مُكوَّناً من مراحل وسيطة تكون متطابقة أيضاً مع واقع أن القوة الروسية الجديدة لا تحمل مشروعاً إيديولوجيا «رسالياً»، كما لا تملك «ستاراً حديدياً» ولا تستطيع استعمال وسائل وتحالفات من طبيعة تلك التي اعتادتها زمن الحرب الباردة. وحتى لو كانت لغة المسؤولين - والعسكريين منهم بخاصة - تتناوب بتقطع على استخدام مقدار متفاوت من المفردات العدائية للغرب وهي مفردات تربُّوا في ظلها، الا انها تُستخدَم اليوم كماضٍ يُستعاد لخدمة استراتيجيات جديدة. ويمكن تلَمُس ثلاث زوايا قد تكون الأكثر تأثيراً في تحديد خلفيات المواقف الروسية في الشرق الأوسط وحيال قضاياه. فروسيا كاتحاد أولاً مهتمة الى اقصى الحدود بالحفاظ على وحدتها الترابية. ولعل التذكير يبدو مفيداً في أن جزءاً رئيساً من»هيبة» وشرعية بوتين والنظام الروسي الجديد كما استقر بعد يلتسين، تحصَّل من قهر حركة الانفصال القوقازية بالعنف والسياسة معاً. والحال انه فيما كان الاتحاد السوفياتي امبراطورية مضمونة الحدود فإن وضع الاتحاد الروسي مختلف اليوم داخل حدوده وعلى اطرافها. ولذا فهو يُركّز جهده الاول على ضبط النزعات الانفصالية القومية والقومية - الدينية والاستقلالية المناطقية داخله وعلى إعادة بناء نفوذه في جواره المباشر مثل آسيا الوسطى وأوكرانيا وبيللاروسيا وجيورجيا. وفي هذا الاطار ولكن ليس كسبب حصري كان ولا يزال مهماً للحكم الروسي بناء علاقة وثيقة بالدول الأبرز في الشرق الأوسط والعالم الاسلامي وذلك لتسويغ سياساته ازاء الاسلام الجهادي المتحالف مع الحركات القومية في القوقاز، ولضبط دول آسيا الوسطى التي تضج دواخل معظمها بحركات أصولية، وبالتزامن مع ميل بعض نخبها الى بناء علاقات اكثر وثوقاً مع اميركا والغرب. وقد ساهمت المرحلة البوشية، بما تخللته من محاولات زرع نفوذ مباشر لواشنطن و»الناتو»في هذا الجوار، بتوسيع المخاوف الروسية واستثارتها. ولا بد من وقت إضافي لتتمكن التوجهات الاوبامية الجديدة من تخفيفها بصورة قطعية بعد توقيع ستارت 2. الزاوية الثانية للسياسات الشرق اوسطية لروسيا قائمة تحديداً في الاقتصاد. وهي جديدة نسبياً مقارنة بضآلة تأثيرها خلال المرحلة السوفياتية في تحديد وجهة العلاقات. فموسكو كانت تبيع الاسلحة والتجهيزات للدول الصديقة بقروض مُيسرَّة بعضها لا يُدفَع. أمَّا اليوم فالوضع مختلف ولم يعد المال»مُحرَّماً». بل العكس صحيح. ومنذ بدء صعوده وبوتين يؤكِّد على الاقتصاد لاستعادة مكانة روسيا كقوة عظمى وأن عليها بمعنى ما الاهتمام بالجيو- اقتصاد كطريق الزامي نحو تغيير جيوبوليتيكي. وغدت عقود تصدير السلاح والتجهيزات النووية والطاقة والمواد الاولية مادة راجحة في التوترات وتعيين سقوفها مع الدول المتقدمة. وتشكِّل دول الشرق الاوسط وبخاصة التي تتعرض منها للعقوبات والعزلة كإيران وسورية سوقاً لروسيا، وغالبيتها كان صديقاً للاتحاد السوفياتي، من دون ان يعني ذلك خفض الاهتمام بالدول التي كانت مُصنفة معادية. فبوتين زار اسرائيل وغدت علاقة روسيا معها عاديةٍ سياسياً وقوية اقتصادياً وأمنياً قبل أن تتعقَّد جزئياً بسبب التزامن بين تأزم الملَّف النووي الايراني وصادرات الاسلحة الاسرائيلية الى جورجيا المُتأطلسة. وفي هذا السياق جاءت محاولة إنشاء اوبك جديدة للغاز مع قطر وايران في حين تحتفظ روسيا بمسافة مع اوبيك النفط. الزاوية الثالثة، هي أن تأمين نفوذ روسي متزايد في منطقة الشرق الأوسط يعتبر مرحلياً حاجة حيويةً على طريق استعادة مكانة الدولة العظمى. إذ أنها ليست منطقة مجاورة وحسب بل هي أيضاً منطقة صالحة في اوضاعها الحالية للحصول من الأميركيين والغربيين على تنازلات لا تتيحها نسبة القوى الدولية الفعلية بسبب الصعوبات النوعية التي تواجه انخراطهم العسكري في افغانستان والعراق. كما أنها مهمة لموسكو من منظار صوغ توازنات ملائمة في علاقتها الحذرة مع الصين وفي الخريطة الجيواستراتيجية للنفط. إلاَّ أن الاستفادة من العوامل الآنفة يبقى مشروطاً بعدم الدخول في مواجهات وبعدم استئناف سباق تسلح مُكلِف من النوع الذي ساهم في تسريع انهيار الاتحاد السوفياتي. وذلك كله يجعل من «الاحتفال» بالعودة الروسية الى الشرق الأوسط طقساً تبريرياً لمن يحتاجون الى الأوهام والى صناعتها في تسويق وتسويغ خطاب «الممانعة» وقواها.